وليس «الفكر كالكفر لأن حروفهما واحدة»، كما قال إمام الوهابية «محمد بن عبدالوهاب» لمن فكر وأعمل عقله وتدبر.. وليس «من تفلسف وتمنطق كمن تزندق» كما ادعى بن تيمية على أصحاب الفلسفة والمنطق الباحثين عن المعرفة والحكمة، ولسنا تلاميذ الأئمة والمشايخ، نقف على أبوابهم كوقوف الميت «بين يدى مغسلة»، يصيبنا الشلل والعته ولا ينقصنا سوى الكفن والوأد أحياء، ولسنا كما وصفوا النساء ونعتوهن «كاللحم على الوضم» على خشبة الجزار يقطعها كيف يشاء، ويلتهمها المشايخ دون شبع أو هضم، لكننا دعاة فكر لمن أراد السبيلا، ودعاة نظر وسمع لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فمن أراد منهم الغفلة
فليدع أصحاب العقول تنظر وتقلب وتتجول فى حدود المعرفة الكونية وفى علوم الله الواسعة، تشك وتحتار وتسأل وتهتدى أو تضل، وكلهم عيال الله.. مَن ضل ومَن اهتدى، دون تكفير أو تأنيب أو ازدراء.
ويستهوينى أمر الأحكام والحدود والعقوبات والمعاملات والعلاقات والعهود والعقود، المسموح والجائز والمقبول والمرفوض والمكروه والمحرم منها، وهى أمور تتحرك مع حركة الحياة، وحركة التاريخ، ترفضها أجيال وتقبلها أخرى، ويزرعها أجداد ويحصدها أحفاد، وتبدلها وتنتخب غيرها لأولادها، فما كان مكروها يوما يصبح مقبولا فى الآخر، وما كانت علته موجودة وتدور مع الأيام تصبح عدما مع السنين، وليس معقولا أن يفرض عليها الناس أو الأديان ديناميكية ثابتة دون حركة وتفاعل وتطوير وتحديث لتقف جامدة لضمان توافقها مع النصوص والأحكام، لا تتحرك بعيدة عنها ولا ترق ولا تحن لغيرها، وهو أمر يتنافى مع حركة الكون والحياة والتطور الطبيعى لعبور حياة الناس وارتقائها من درجة لأخرى، وهى سنة الله فى كونه، وآية الله فى خلقه، وهى شواهد الله من التطوير والتحديث والتجديد والتحريك، فليس الإنسان ثابتًا عند زمن، وليست الطبيعة على حالها.. فمن كان يومًا غازيًا ومحاربًا، لا يجد قوت يومه إلا بالإغارة على القبائل من الجيران يأكل ويشرب ويفتك بالبشر ومقبولا ومسموحا به ومنهجا أقحم نفسه على الدعوة لله، أصبح مقيدا بقانون يجرّم هذا ويمنعه من البلطجة والاستعمار، فلا يتكسب إلا من عمله وعلمه، وتخلى بإرادة بشرية عن منهج الدعوة هذا.. ومن كان يبتاع النساء من سوق الجوارى ويتفحصها ويختبرها قبل النزال، أصبح يطلبها للزواج وفقا للقانون ليس غير.. ومن كان من حقه الوقوف على النواصى يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر مخضب اللحية حليق الرأس ساعة بالضرب وأخرى بالحبس، أصبح مقيدا بما يقيده القانون فلا عقوبة إلا بنص، ولا جريمة إلا بالقانون، وأصبحت الشريعة جزءا من القانون، تتحرك من خلاله ومقيدة به، تخضع لسلطانه وتقبله إماما وخليفة، فما يجيزه منها يلتزم الناس به، وما يُستغنى عنه يستغنى الناس عنه.. «ومن هنا يبدأ المشوار»، فلو جاءنا خليفة من الخلفاء ليتسرى بآلاف السبايا والإماء لكانت فضيحته بجلاجل وأشار عليه الناس فى الشوارع وعلى شبكات التواصل بالزانى أو العاصى، بل حاكموه وربما سحلوه، والفارق بين هذا وذاك هو التاريخ والقانون وسمو وارتقاء القيم الإنسانية، وكلها تتخطى وتتجاوز حدود الأيام والأديان والحضارات والتاريخ والتراث والنصوص، وهى الأسباب الرئيسية فى تحريك الأحكام والأعراف والعهود إلى الحيز المقبول والمسموح والمفيد، أو رفضها إذا تطلب الأمر.
ولأن فكرة «الناسخ والمنسوخ» وهى تتماشى مع ما سبق، وهو تحريك الحكم مع العلة والسبب، أو انتفاء الغرض، أو التصعيد أو الارتقاء أو التخفيف أو التشديد أو التدرج فى العقوبة أو المنع أو الإلغاء.. كل هذا ليس إلا خضوعًا واستجابة لحركة الحياة، وقبولًا للأمر الواقع الذى يفرضه الناس ويقبلونه ويرفضونه، وهو ما يؤكده كتاب الله «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها»، فهل وقف الناسخ والمنسوخ عند نهاية الرسالة واكتمالها؟ وهل اكتملت إلى الحد الذى وقف فيض الحياة واستغنى الناس عن التجديد والتطوير؟ وهل وقفت الحياة عند نقطة تاريخية بانقطاع الوحى عن السماء؟ وماذا يصنع الإنسان إذا احتاج لتشريع إلهى يحميه، أو نسخ آخر قد تجاوزه إلى غيره؟ وهل يتوقف هذا التواصل مع الله وهو موجود بيننا؟ هذا ما نريد معرفته.
أقول إن الله موجود، والعقل- وهو خليفته- موجود، وهو وريث الأنبياء والرسل، محاط بقدرة الله طالبا ومطلوبا، هو الوحى والرسول والوصل والمنهج والواسطة والوسيط والمبتكر والصلة، وهو المقرر والمدبر، فلا يمكن أن نعيش دون تجديد مع العالم والعلم والطبيعة والتواصل مع الخلق فى دائرة متصلة ومتجددة ومتوازنة ومتوافقة، وبه تستقيم الأمور وتعتدل، تتوافق ولا تتصادم، وتضيف وتنسخ كلما كان الأمر فى احتياج، لأنه دائم الاتصال بالناس من ناحية والخالق من الأخرى، فمن حجبه كمن حجب الوحى، ومن قيده فقد قيد الوصل، ومن قطعه فقد قطع الاتصال بالله