ولما نسعى لنصرة المرأة من الرجل، ونرفع عنها سلطانه ونفوذه، ونُغيث غير المسلم من سطوة التراث وتضييق الطريق وغبن الفقهاء والممولين، سواء أكان هذا صناعة رجال الدين، أو صنيع الخلفاء والسلاطين، أو حتى بعض مُا حمل إلينا بسوء نية أو غير، بقصد جميل أو خبيث، نُلام أشد ما يكون اللوم، ونُكفَّر ونُزندَق على قدر ما حمل الفقهاء، وعلى ما اتسعت مساحة الكفر والزندقة عند الجهلاء والمتطرفين، ونُقاتَل قتال الفئة الممتنعة التى أُجيز حَزّ رقابها، ونُتَّهم بهدم ثوابت الدين، ومحاربة الإسلام والمسلمين، وكأن الرأى والفكر غالب وقادر على هدم ثوابته، فلاشك أن ناقلى الرسالة وحمَلتها من الرجال كانوا يحملونها على كتف ويرفعونها على الآخر، ويتشاورون فيما بينهم قبل أن تخرج على العوام، فما يرضونه يباركونه، وما يُعْرِضون عنه يبدلونه، وما يختلط عليهم أمره يؤجلونه، فصار للرجل السبايا والحور العين، والنساء أكثر أهل النار وقودًا وإخبارًا بالفواحش، وللرجال القوامة والشهادة، ولهن نقصان العقول وخيبة الولاية، وأصبح للغزاة والمحتلين قانون يُشد السيف إليه شدًا خبيثًا، فيجور ويظلم ويعتدى ويسرق وينهب باسم الخلفاء والأمراء ويقولون هذا من عند الله، حتى غدا غير المسلم ذمّيًا، يُسْلِم أو يدفع الجزية أو يُقتل، ويميز مخلوقات الله بعضهم على بعض، فهذا كعبه أعلى وهذا دمه أزكى، وهذا لا يطاول هذا فى البنيان، وذاك يُباع فى سوق النخاسة، وهذه تُسْبَى لتكون متعة لذاك، وهذا يضيع فى الصحراء كما يرى الأمير، ويبدو الأمر صراعًا على الدنيا وليس على الدين، ونفوذ بشر وليس نفوذ إله، ومكسبًا ومغنمًا للجيوب وليس لله، ورفع شأن وثروات للعباد وليس لخالق العباد، وكم كنا نود أن يكون ما جاء به الله مرفوعًا على رايات السلام بديلًا عن رايات الحرب والجهاد، ومَن شاء آمن ومَن شاء كفر، ويعيش عباد الله جميعًا معًا فى سلام، هذا هو الحق الذى نسعى إليه.
ومن الخطأ تصوّر أن الله يتعامل مع عباده كما يعامل الناس بعضهم بعضًا: مصالح ومنافع متبادَلة ومتضاربة ومنقسمة أحيانًا، وأخذ وعطاء، وخذ وهات، ومكافآت وحوافز وأرباح، وسلطان للعباد على العباد، وظلم وجور بين الناس مرهون بتبادل القوة، وكأن الرسالات قد جاءت تتحارب وتتقاتل فيما بينها لتثبت تفوق دين بيد أصحابه على الآخر، بالغلبة فى الكثير والإقناع فى القليل، وليس فرق يُذكر بين هذا وذاك، وهو قريب الشبه بما تحاربت وتقاتلت من أجله الإمبراطوريات السابقة على النفوذ ومصادر الدخل والماء والكلأ، نفس العنوان ونفس الدرس، فكيف يكون منهجًا بشريًا وتاريخيًا وقبليًا على هذا النحو ويكون هو نفسه منهج الله فى نشر الديانات؟ «ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا»، وهل يُعقل أن يكون القتل والحرق والصلب والسبى فى الكثير أو القليل قربى إلى الله، وهو القادر على أن يهدى مَن يشاء ويُضِلَّ مَن يشاء، بيده الأمر وهو على كل شىء قدير؟!
كيف نتعامل مع الله بهذا الخوف وهذا الرعب؟ وكيف نخشاه أكثر من أن نحبه؟ وكيف نفزع كل هذا الفزع كلما فكرنا فى اللقاء أو القرب؟ وهو خالقنا وبارينا ومُطعِمنا وساقينا، وما هذا القلق من لقائه حتى لو كنتَ عبدًا عاقًّا، أو ناكرًا وجاحدًا للجميل، حتى تكون فى مرمى نيرانه وعذاباته، فليس بيننا وبينه خصومة، حتى لو رفض الناس أديانه كلها، فلو شاء لجعل الناس أمة واحدة وعلى دين واحد، وكل المختلفين على عهده وإقراره ومباركته، وتحت سقفه وفى حماه وظله، هلّا رأيتَ أمًا قد عذبت ولدها العاقّ، أو انتقمت منه شر انتقام؟ فأَحَنّ وأطْيَب منها هو الله. أرأيتَ يومًا أبًا حرم ابنه العاق شربة ماء أو لقمة غذاء أو قطعة كساء؟ فأرَقّ وأعْطَف منه هو الله، فلا تخافوا ولا تبتئسوا، ولا تصدقوا هؤلاء الذين يقفون على الأبواب يتاجرون باسم الله.
إياك أن تظن أن سبيل الله هو سبيل البشر، ومنهج الله هو منهج عباده، وسعى الله هو سعى مخلوقاته، ومراده مرادهم، فلمّا ترى تطابقًا فى شىء بينهما، وبعيد عن منهج الرحمة والمحبة والسلام، اعلم أنه ليس من عند الله، ومن عند البشر، فإن الله لم يشرع قتالًا لإعلاء كلمته، ولم يدفع عبدًا من عباده إلى سرقة أو نهب آخر، ثم يدعوه إلى دين الحق الجديد، ولم يتكرم على مخلوق أن يُذِلَّ مخلوقًا آخر أو يهينه، ثم يقنعه بأنه قد جاء له بدين الرحمة المُهداة، ولم يُنعم على إنسان بحبه وفضله وكرمه ليكون سوطًا وسيفًا باغيًا داعيًا إلى الله ونصيرًا لرسالاته، إن الله غنى عن العالمين، ولو شاء لجعلهم على دين واحد، أو رسول واحد بدأ به الدنيا وانتهى به، إلا أن هذا الاختلاف منهج الله فى خلقه، «ولِكُلٍّ وجهة هو مُوَلِّيها فاستبقوا الخيرات»، هذه هى المنافسة الشريفة بين الأديان، السباق فى الخير، ليس أكثر وليس أقل، هذه مهمة الأديان فقط «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا مَن رحم ربك ولذلك خلقهم»، هذا هو قول الله، وغيره من عند بشر، فأَحِبُّوه يُحببكم، ولا تَخْشَوْه، واخْشَوْا أنفسكم.