وصلنا فى المقال السابق إلى أن دين الله «الأصلى الأصيل» قد اخترقته السياسة، وتسلقه الحكام، واجتازه المشايخ وعبروه وضلَّلوه وباعدوا بينه وبين العباد بُعد المشرق عن المغرب، حتى وجد الطاغية والظالم والعادل والشرس والقبيح والطيب كل منهم بركاته ورضوانه تحت سمائه، وليس هذا بحق أو بعدل، بل هو اختراق بلا تحصين، وسرقة بالإكراه، ونصب واحتيال، وتدليس وتعدٍّ على حقوق الله دون حاجب أو حاجز. ولما نقول إن الاعتذار عن تاريخنا حتى يومنا هذا واجب وحتمى يفرضه الواقع، فإن تحصين هذا الدين من هذا الاختراق فى المستقبل أوجب وأحق مئات المرات لأن هذا «المر» وهذا «العلقم» الذى كنا ومازلنا نتجرعه نحن وغيرنا لم يعد «مبلوعًا» أو«مهضومًا»، بل يتجاوز فكر عتاة الطغاة والبغاة، ويستديرون منه خجلًا وجزعًا.
ولما كانت السياسة هى المرض والعلة، فلا براء ولا ترياق ولا دواء سوى بإقصاء هذا الداء، وعزلهما عن بعض، ولأن السياسة تطارد فريستها وتتعقبها وتقتفى أثرها، وتتبع حركاتها وسكناتها، وتفتش عنها وتتفحص وجوه المطارَدين منهم حتى تعيدهم إلى حجرها وتوظفهم لخدمتها، وجب علينا إقصاء الدين بعيدًا عنها، وتنحيته فى حصنه الحصين وقلعته الآمنة الصامدة، وعزله فى مسجده ودار عبادته لا يبرحها أبدًا، وهى قلاع لا تقربها السياسة ولا تتعقب مطارَديها، وحرام اقتحامها، كحرم الجامعة والعلم، طابور عريض من الجند ينام ويأكل ويتغوط خارج الأسوار، لا يقربها حتى تخرج الضحية يفترسها، ولكن كيف وهما توأمان متلاصقان، حبيبان لا يفترقان، زوجان بينهما عهد وميثاق غليظ؟ كيف نخطف الدين من أنياب السياسة، ونسحبه من مائدته ونفر به إلى مأواه وملاذه، وهؤلاء السماسرة يراقبون الخارج والداخل، ويرصدون عقول الزائرين تحت أجهزة كشف الكذب، ويتربص لهم رجال الدين بالصراط ورجال السياسة بالسياط؟ لنا الله وتوكلنا عليه وإليه المصير..
ونحن وُلاة التنوير والعقول، وعصبة الدولة المدنية، وعيونها وسندتها، لا نملك خيلًا أو سيفًا أو رمحًا أو حتى حبلًا نتسلق به الأسوار لننقذ دينًا أو أسيرًا، اللهم قلم وخطة ودليل وبرهان ونجاحات بطول الدنيا وعرضها إذا احتكمنا للعقل ووقفنا نجادل ونحاور، نحن نملك الدليل على ريادة العقل، والبرهان على تفوق العلم والعمل، والحجة أن السلام والمحبة وحرية العقيدة أساس استقرار العالم وأمنه وسلامته، والإقرار والإثبات على عدالة قانون الأغلبية الوضعى المتجدد، والسند على أن الصراع الآن صراع أديان ومذاهب إذا فصلناها وأعدناها إلى أصلها وحصّنّاها نجونا جميعًا، وفى النهاية ليس لنا من سبيل، وليس لنا من حريق وليس بين أيدينا من قتيل، نحن دعاة فكر وسلام.
لسنا دعاة ثورة، وهى «الأسرع والفاصلة»، ولا نملك أدواتها كما يملكون، ولا نحمل قلوبًا غليظة شديدة البأس تقهر المخالفين بالرعب مسيرة شهر كما يملكون، ولا نملك سلطة ذكية قوية تساومهم على الرحيل مقابل ما جنوه من ثراء وثروات دون رجاء أو استعطاف، «وكما كنا نأمل أن ينتبه الحكام إلى أن هذا أمر هين»، ولا نملك ظهيرًا من البلطجية والدهماء ندفعهم أمامنا يمهدون الطريق، بل الأكثر صعوبة أن الدولة المصرية ليست مخترَقة بالسلفية فقط، بل هواها الذى تتنفسه سلفى، ويومها ونهارها وأكلها وشرابها حتى مخادع نومها ووطئها سلفية، فى كل الأجهزة سيادية أو عادية، عامة أو خاصة، وحتى لا نُحرج أنفسنا أكثر، فكل قطاعات الدولة بحذافيرها وتفاصيلها حتى الأجهزة التى يجب أن تنأى بنفسها عن هذا الهوى مخترَقة ومسكونة ومحكومة وعلى المزاج.
الحل: أن نبدأ التحدى واضحًا وصريحًا وعلى المكشوف، ونرفع صوت الحوار عاليًا صاخبًا كصليل السيوف، ولا نخفى مسألة محرجة فى تاريخنا فيها برهان أو إثبات مخافة الحرج أو الخجل من ذكرها، أو خشية البطش أو التنكيل أو التكفير، وعندنا فى المسألة الواحدة ألف إثبات وبرهان، ولا نكل ولا نمل من مطالبة الدولة بفصل الدين عنها كما فعلت السودان، وهى المهمة الأولى التى تختصر المسافات أيَّما اختصار، وندافع عن كل التهم الظالمة التى أفرط فيها هذا التيار باتهاماته الباطلة للعلمانية وللدولة المدنية، ونرفع عنهما هذا العار المبتذل والمكذوب والمُلفَّق. «هذا التيار يبيح هذا النوع من الاتهام الظالم سواء للأشخاص أو للأديان أو للجماعات أو الفرق، فيقذف الجميع بالباطل، وهذا على منهجهم حلال ويخدم الدين».
آن أوان المواجهة الفكرية الصريحة، والنقد الموضوعى، والحوار العلمى العقلى، واختصار الخرافات والأساطير، وكشف المستور فى تاريخنا، وعودة الدين الحق إلى أصله وبداياته الأولى السامية الإلهية، وهو الهدف والمرتجى، وإبعاده عن السياسة، التى ما تركت جريمة إلا وارتكبتها، وللأسف كانت الأديان حاضرة تراقب وتتطلع، فإما أن تبارك أو تسكت علامة الرضا والقبول، «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم».