لو أرادوا لما تركوا العقول صحارى صفراء، تتصارع فيها أفكار التكفير والطائفية والتعصب التى هى تجليات الفكر أحادى التوجه.
سؤالى الذى أطرحه على وزير التربية والتعليم د. طارق شوقى، وعلى كل وزراء التعليم العرب، وأيضا على كل واضعى مناهج اللغة والأدب بمراحل التعليم كافة، هل لو تضمنت المناهج سنويا تدريس إحدى روايات نجيب محفوظ، أو بعض النصوص المميزة المتعددة لروائيى مصر والعرب الآخرين من أجيال مختلفة، وتمت مناقشتها مع الطلاب على مستوياتها الفكرية والفنية والاجتماعية، هل كنا سنُبتلى بكل هذا العنف والتطرف الذى يسيطر على النهج العام فى المجتمع، هل كنا سنبتلى بالضحالة والتفاهة وشيوع اللامبالاة والابتذال فى أداء كثير من الطلاب اليوم، وشرائح متعددة من الجماهير، هل كانت اللغة العربية ستشعر بغربتها بين أهلها وعلى أرضها، هل كانت عناصر الهوية ستشعر بالاهتزاز والبهتان؟
فى الذكرى الرابعة عشرة لوفاة «نجيب محفوظ» علينا أن نتساءل لو أن ما تركه من أدب وسرد بما احتواه من حراك فكرى ووجدانى يعيش بأذهاننا وذائقتنا، ويتجسد بحيوية فى التعليم الأساسى هل كان بإمكان المنظور الواحد، بكل ما ينتج عنه من عيوب، أن يسيطر على الأذهان ويأكلها؟ أم أن تدريس ومناقشة تلك النصوص عالية القيمة الفنية والفكرية لمحفوظ ولغيره من مبدعين كانت ستفتح أذهان قرائها ودارسيها على الحياة بمعناها الشامل، المتعدد الرؤى؟
لقد استدعى يوم وفاة محفوظ لدى كثيرا من أسباب الشجن، حيث إننا نُكرس لموت أديب نوبل العربى العظيم كل يوم، نكرس لنهايتنا، ذلك حين لا تُدرس وتُقرر نصوصه ونصوص مبدعينا المميزين للطلاب فى مدارسنا.
يدعى محدودو الأفق الذهنى، الذين سيطروا على وضع المناهج واختيارها، وعلى تحديد استراتيجيات التعليم منذ عقود طويلة، هؤلاء الذين تسيّر أهدافهم توجهات الإسلام السياسى أنهم يخشون على الطلاب من التجاوزات الأخلاقية التى يتضمنها السرد لدى محفوظ والمبدعين الآخرين، يحصنون الطلبة من خدش الحياء العام الذى يرد فى السرد، لكنهم فى الحقيقة يخشون أن تشتغل العقول التى يبّسوها وأطّروها بإطار محدد، سابق التجهيز، خافوا من العقول المتحركة الحيوية التى يدفعها الإبداع لطرح الأفكار المتعددة ومناقشتها.
فى ذكرى وفاة محفوظ راودنى تساؤل استنكارى آخر، هل تتوفر إرادة حقيقية فى إصلاح وتطوير الخطاب الدينى بحق؟ هل تم بحث المسارات والوسائل التى باستخدامها ومن خلالها نستطيع أن نصلح الخطابات الثقافية فى المجتمع المصرى والمجتمعات العربية؟
طريق الإصلاح الذى أومن به ولم أزل يمكن أن يتجسد فى عدة محاور أساسية.
لو أراد القائمون على الأمر إصلاحا وتطويرا حقيقيا لأوجدوا خطابات ونصوص عقلية وفنية، تدفع أذهان أكثر من 30 مليون طالب، ينتظمون فى سنوات الدراسة المختلفة كل عام للاشتغال والتفكير، أن يتملكها هاجس السؤال. فبعد أن نقرأ، وعندما نغلق أغلفة الأعمال السردية العظيمة، تنفتح مباشرة فى العقول مسارب التفكر، ومساءلة الحياة من حولنا.
لو أرادوا إصلاحا لفعّلوا تدريس الفلسفة، وطرحوا على الطلاب أفكارا ورؤى للحياة تتجادل مع الخطابات المتسلفة التى سيطرت على الجموع.
لن يتم الإصلاح على يد رجال الدين الذين استكانوا لموروثهم ولم يطوروه، بل وجدوا فيه أسباب حياتهم ومجالا مفتوحا تعلو فيه أصواتهم، وفرض السماع لهم تحت دعاوى متفرقة، حفاظا على مؤسساتهم ومصالحهم المادية.
أكاد أجزم بأن الشاب الذى قام بطعن محفوظ لو كان قد قرأ «الحرافيش» مثلا ودرسها ضمن المقررات التى يجب أن يجتازها، وتناقش فيها مع مدرسه وزملائه لم يكن يستطيع أن يؤذى محفوظ بأى شكل، ولم يكن سيستجيب لأى فكر منغلق يكفر ويدعو لتصفية الأرواح. لقد تعرض محفوظ لمحاولات تشهير وإساءة مرات متكررة فى خطابات التيارات الدينية المتسلفة وغيرها، وواجه دوما فى حياته، وبعد مماته، حملات اضطهاد وتقوّل على فنه وفكره وخاصة فى سنة حكم الإخوان السوداء، لقد كان من وراء هذا الاستهداف دوما قلقهم مما يفعله إبداعه فى العقول.
السيد الدكتور وزير التربية والتعليم أرجو ألا تلق بالا للمقولات التى تزعم أن نصوص محفوظ وغيره من المبدعين تخدش الحياء العام، ما فعله ويفعله واضعو المناهج أنهم لا يخدشون عقول البشر، ولذا يتركون الأجيال كأنها لم تأت للحياة من الأساس، كمٌ مهملٌ، لا منتج منه سوى كونه قنابل مستعدة ــ عند إطلاق الأمر لها ــ أن تنفجر فى الحياة.
لو تضمنت المناهج دراسة أهم ما أنجز كتاب العربية بأجيالهم المختلفة من نصوص مثل: توفيق الحكيم، يحيى حقى، يوسف إدريس، موسى صبرى، فتحى غانم، وأسماء كثيرة أخرى، مصرية وعربية أستطيع أن أعدد العشرات منها لما واجهنا هذا التخلف الذى نحيا تبعاته فى كل أشكال حياتنا.