يبدو أن التباساً كبيراً وتناقضاً يحكم ذهنية القائمين حالياً على أكبر مؤسسة للترجمة فى مصر، وسواء حُجب المنشور الذى قصدوا به توضيح خطط العمل فى المرحلة القادمة فى المركز القومى للترجمة أو لم يحجب، يظل هناك إنذار، وعلامة على خلل حقيقى فى رؤية القائمين على الترجمة فى المركز.
وربما أجابت الأسئلة البسيطة للغاية عن طبيعة تلك التناقضات والأمور الملتبسة فى فلسفة الرؤية للترجمة.. أول هذه الأسئلة البديهية: لماذا نترجم، أى ما هدف الترجمة من اللغات الأخرى؟.. ثانيا ما مواصفات الكتب المترجمة فكريا وعلميا وفنيا، وما مدى القيمة المعرفية التى وفقها يتم اختيار الأعمال التى يجب أن ينجزها المركز؟.
تقول المسلمات: إننا نترجم لنتجاوز أنفسنا، نرى خارج حدود معارفنا، ونطّلع على العالم من حولنا بكل ما يشغله من قضايا، وينتجه من معارف وعلوم وفنون، نترجم لنعرف الآخر المغاير الذى أنتج حضارات وثقافات أخرى، هذا الآخر المختلف عنا بالضرورة قد لا يعتنق ديننا، ولا تقاليدنا وعاداتنا، مختلف عنا فى نسقه الثقافى، لا يعيش ضمن نظامنا السياسى والاقتصادى والاجتماعى، نسعى لمعرفة الآخر الذى قد يكون دينيا أو لا دينيا، لكنه ينتج معارف وعلوما.. محافظا أو حداثيا لكنه يبدع، يعترف بالأعراف الاجتماعية والعادات والتقاليد أو لا يكترث بها، لكنه يقدم ما يستحق معرفته ومناقشته والدخول معه فى حالة من الديالكتيك.
الاختلاف إذاً هو الذى نسعى للتعرف عليه؛ لقدرته على أن يجرح القشور المتكلسة التى نكوّنها حول ذواتنا ونتصور أنها المُثلى، الاختلاف الذى يصطدم بجمودنا واعتيادنا، فتُستفز قدراتنا، ومن هنا تتجدد حركة الفكر، والعلوم، والتقنيات الفنية. وتزدهر حركة جدل الأفكار التى لا تُبقى على ما كان لدينا، ولا على ما تعرفنا عليه من الترجمة، لكنها تنتج جديدا مغايرا للاثنين، وهو ما يدفع بالحياة للتطور وتوالد المعرفة وتجددها.
فحين يتضمن البيان ضمن شروط الأعمال المقبولة للترجمة «ألا تتعارض مع الأديان ولا مع القيم الاجتماعية والأخلاق والأعراف»، علينا أن نتريث ونتساءل: لماذا نتصور أن ثقافتنا وموروثاتنا هشة للغاية، وأن مجرد ترجمة سواها يمكنه أن يقضى عليها أو يستبد بها هذا الوافد؟!.. ولماذا نقدس المتغير بطبيعته، أعنى الأعراف والتقاليد؟ أى عقل أصولى هذا الذى نرتضيه لأهم مؤسسة تستهدف حراكا فى مسيرة الفكر والفن والعلوم؟!.
لا تنهض الأمم والحضارات إلا بهذا التلاقح، وهو ما أدركته الحضارة الإسلامية فى عصورها المزدهرة، فكان مشروع الخليفة «المأمون» ت 218 للترجمة، وتخصيص بيت الحكمة ببغداد لهذا السعى، ثم توالى تحفيز الخلفاء فى الدولة العباسية لترجمة كل ما يقع تحت أيديهم من مؤلفات، وتشجيع المترجمين، والسخاء فى العطايا لهم حد وزن الكتب بالذهب. فى العصر الحديث، اعتمد «محمد على» على الترجمة من اللغات الأوربية لكثير من العلوم والمعارف ليقيم دولته الناهضة، ومن أجلها أقام مدرسة الألسن بإشراف «رفاعة الطهطاوى». وفى القرن العشرين كانت فكرة «لجنة التأليف والترجمة والنشر»، وظل «أحمد أمين» قائمًا عليها حتى وفاته فى 1954.
ثم دفع «طه حسين» بمشروع ترجمة الألف كتاب ليشع نور المعرفة فى المجتمع، ولم تكن هذه المعايير المنافية للهدف من الترجمة تَرِد على بال أحد بالطبع. فمراكز الترجمة تنويرية بحثية تقدّم المستحدث بالعالم، كما من مهامها ترجمة أمهات الكتب العالمية.
ولقد ورد فى معايير الخطة أيضا أن تقتصر الترجمة على الكتب التى لم تترجم من قبل، فى حين أن هناك كتبا شديدة الأهمية يمكن أن تكون تُرجمت سابقا، وفى بلاد عربية خارج القاهرة، أو فيها، ولم يكن نقلها للعربية هو الأفضل، فتأتى إعادة الترجمة لتهبها فرصة أفضل للوضوح ومن ثم التأثير.
ويصف الأستاذ والمترجم «سيد إمام» هذه المعايير التى وضعها المركز لترجمة الكتب على صفحته بأنها ردة ثقافية، وعدم وعى بطريقة التراكم المعرفى، ويتساءل: ماذا يعنى ألا يكون العمل قد مر عليه أكثر من خمس سنوات؟.
ويجيب ببساطة: إنه إلغاء الأعمال التأسيسية التى أقيم عليها الفكر الإنسانى كله، وبافتراض أن السنوات الخمس الأخيرة تمثل الحلقة الأخيرة من حلقات التطور البشرى - وهو خطأ - فهل يمكن فهمها دون النظر إلى ما قبلها؛ بوصفها نتاج جدل هذه الحلقات وتعارضها معها؟!.
ويضرب مثلا بالنقد الأدبى الحديث، هل يمكن فهمه دون الاطلاع على نظرية المُثل عند أفلاطون، والمحاكاة عند أرسطو.
أثق بأن القائمين على الثقافة يدركون مهمة المركز ووظيفته، وأن الخروج بالثقافة المصرية والعربية وخطاباتها من التقليد والدوران حول ذاتها هدفهم، وحسناً فعلت الوزيرة بالتغيير الذى استدركته سريعا.
رسالتنا مقاومة الانغلاق، والسعى للارتفاع بوعى الشعوب، وتوفير بدائل عقلانية تواجه خطابات رجعية وعنيفة، المركز القومى للترجمة مؤسسة من شأن منتجها أن يعرض الأفكار كافة، وأن يحارب الأفكار بالأفكار الأحدث والأكثر مواكبة، أن يصنع بانوراما معرفية فنية علمية نرى من خلالها العالم لنعرف موقعنا فيه.
وأحسب أن من واجب الإدارة الجديدة إصدارها بيانًا آخر تقول فيه: إن كل مؤلف سيتم ترجمته، ونشعر أنه يطرح طرحا مختلفا سنقوم بعمل ندوة موسعة له ولكاتبه، إن أمكن، وسندعو لمناقشته مع المتخصصين فى مجاله، فى حضور جمهور واسع، فهدفنا حراكٌ عميقٌ بين مفكرينا وكتابنا وعلمائنا، وبينهم وبين مواطنيهم.