أقول ويقول آخرون إن التحرش نتيجة انعدام التربية في البيئة الأولى الحاضنة، وانشغال الأب والأم في الحصول على لقمة العيش، فلا وقت لغرس القيم السوية في أبنائهم.
ونرجح أحيانا أنه نتيجة لتدنى المستوى الاقتصادى لفئات كثيرة من المجتمع، وقلة فرص الزواج نتيجة لصعوبة تكاليفه، فحين يغلف الضباب المستقبل وتنعدم القدرة المادية ينحط الإنسان في الطريقة التي يشبع بها غرائزه. لكننا نلاحظ عموم الظاهرة أيضا مع الميسورين.
ويُرجع الكثير منا ظاهرة التحرش لصورية المنظومة التعليمية بكاملها، حيث لا يحصل الفرد على تعليم جيد، أو أنشطة رياضية وفنية تهذب طاقاته وترتقى بها. كما تفتقر المناهج وسلوك المحيطين بالطالب لمنظومة قيمية راقية.
قد يحمل كل ما نردده نسبة كبيرة من الصواب، لكن في أكثر العصور السياسية سلطوية ورقابة لم تظهر على السطح تلك الظاهرة، حيث كانت الخمسينيات والستينيات لحظة يقظة وصحوة ومستقبل منفتح للمرأة، وطموح في تحقيق آمال كبار لمساواتها بالرجل في الحقوق كافة. ورغم أناقة المرأة في تلك المرحلة وجمال مظهرها لم يكن لتلك الظاهرة حضور يُذكر.
يقولون أيضا إن المرأة سبب أساسى في حدوث تلك الظاهرة، حيث إن رؤيتها لذاتها تنحصر في كونها أنثى قبل كونها إنسان، وإن طريقة ملابسها وطريقة تعاملاتها تفضى لأن يتعامل معها الرجل على هذا النحو من الوحشية. لكننا نفتح سؤالا لنقول: من جعل المرأة تنظر لنفسها على هذا النحو؟
أستطيع أن أدعى أن كل تلك الأسباب صحيحة، حيث يمكن حال تراكمها وتزامنها معا أن تؤدى للظاهرة. لكن الحقيقة أن كل هذه الأسباب ليست جذرية، أو بالأحرى هي أسباب سطحية وقشرية تحت مائها أسباب عميقة أخرى لنسق ثقافى ممتد وأزلى.
منذ القديم وضع الرجال ما يشبه قوانين اجتماعية صارمة بعد أن انتهت المرحلة الأمومية في التاريخ البشرى، أهم هذه القوانين: أنه لا حق للمرأة في جسدها، ولا يمكن أن تتصرف فيه بحرية، بل يظل تحت وصاية الرجل الذي تنتمى له، فإن هي ملكت جسدها هددت استحواذه عليها.
ولضمان استمرار ملكية الرجل للمرأة كان عليه أن يخفيها أو يَحجب الكثير من خلقتها، وليتمكن من هذا على النحو الأفضل عليه أن يشرعن هذا الحجب، حتى لا يكون هناك سبيل للمقاومة من المرأة.
فرض الرجل أيضا على المرأة أنه لا حق لها في المعرفة أو الكتابة، يخشون إن هي عرفت ثارت وتمردت، وطالبت بفرص حياة عادلة ومساوية للرجل. لا حق للمرأة في السلطة أو الحكم، فالقوامة للرجل الذي أزاح المرأة من المشهد الكلى للحياة وحصرها في البيت لخدمته وتربية الأطفال، فإذا ملكت وحكمت ستقاسمه ما يستأثر به من نفوذ، وتشاركه في الاستحواذ والاحتكار، تشاركه ماديا، وفى تمجيد الذات، وتخليدها.
هيأ هذا النسق الثقافى أيضا غلاف من المقولات التي تحيط بالمرأة، فصك لها لغة وتعبيرات تهيمن على وصف طبيعتها، أساليب من الازدراء والتحقير، والتشكيك في قدراتها في صور نمطية، هذه الصور بالتكرار والتراكم أصبحت لا تنمحى من العقل الجمعى، سواء عند الرجال أو النساء، هذه الصور تحولت لبنية للفكر البشرى، وهيكل معرفى. أصبحت هناك ثنائية: الرجل والمرأة، صفات ثابتة اقترنت بالمرأة وجعلتها في مستوى أقل وغير جدير بالمساواة مع الرجل.
المقولات والصفات الحكيمة الإيجابية لصقت بالرجال، أما النساء فلصقت بهن العاطفة الجياشة، والتردد والحيرة، والهشاشة والعقل المشوش، غير المرتب ولا الممنهج، الضعف الجسدى عندما يريدون إثبات هذا، وفى مواضع أخرى- عندما يريدون- تصبح المرأة قوية وقادرة على الاحتمال.
وعبر الأجيال أصبحت تلك الادعاءات نموذجا معرفيا قويا ومسيطرا على الأذهان، حتى إن النساء أنفسهن قد تشبعن بها وصدقنها، وأصبحن هي اللاتى تتناقلنها وتكرسنها من خلال تربيتهن لأولادهن لترسيخ تلك الثنائية، فلقد ساهمت المرأة نفسها، التي وقع عليها التهميش والظلم منذ البداية، في استمرار تلك المفاهيم واستدامتها، وتربية أجيال متتالية تنقل هذا النسق المعرفى بشكل طبيعى وسلس، رغم أنه على السطح القانونى لم تعد تلك القوانين التي استنها الرجال منذ القدم سارية، لكن الجذر المعرفى القديم والجمعى كان قد تشبع بها ورسخت في الأذهان.
في كل تلك القوانين هناك احتكار للقوة والنفوذ والملكية والمعرفة من الرجل، وحرمان للمرأة، بل التقليل من شأنها وعدها فريسة.
إن لم تفكك هذه المقولات المعرفية المتوارثة التي تضفى صبغة القداسة والشرعية على التراتبية الجنسية في النوع البشرى الواحد، لن تستطيع المرأة أن تتمكن من المساواة في الحقوق مع الرجل، ولن تسهم بشكل كبير القوانين الصارمة- إن وجدت- في ردع المتحرشين. المتحرشون نتاج مجتمع يحقن مشاكله الجذرية بالمواد المخدرة فقط، لكنه لا يواجهها بطريقة حقيقية.