تشرع فى تطبيق القانون على طريقتك عندما تتشبث بطلب العدالة عبر القنوات القانونية، ولا تستطيع إليها سبيلا» هذا ما قاله صديق (جورج فلويد)، الأمريكى الذى قُتل مؤخرا تحت قدم الشرطى العنصرى، معلقا على الأحداث التى أعقبت موته.
وعودة إلى فيلم «المنصة أو الحفرة»، حيث يحتشد بهذا العمل العديد من الرموز والتناصات مع الموروثات المعرفية، التى تجعله مميزا من حيث الرؤية والتقنيات السينمائية.
يبدأ (جورينج) يسأل رفيقه فى الطابق «48» عن أشياء كثيرة لا يعرفها لكونه مستجدا فى هذه الحفرة، ويرفض (تريماجاسى) الإجابة إلا إذا أخذ منه معلومات فى المقابل، «الإنسان وطبيعته المقايضة»، يحكى (جورينج) سبب وجوده فى الحفرة، فيقول إنه أراد التخلص من التدخين، وأن يحصل على دبلوم، فتقدم «للمركز العمودى للإدارة الذاتية» وقُبل، على أن يمكث به ستة أشهر، (كأن تلك الشهادة هى اجتياز الإنسان لهذا الوجود، رغم طبقيته ووحشيته- سواء على مستوى الظلم الواقع على الأفراد أو حتى الدول- كأنها شهادة تثبت قدرته على التكيّف، وإعمال عقله، والتفاعل مع المتغيرات والظروف، والاختيار الذى قد يكون مخالفا للمعتاد والمألوف، فالبقاء ليس للأقوى، كما ورثنا من مقولات، قدر ما هو للفكر الذى يتكيف ويختار، يُسلح نفسه بالقوة التى تمكنه من تطبيق رؤاه، ولذا يستحق الخلاص)، وحين يسأله (تريماجاسى) عمّا اصطحبه إلى الحفرة يقول: كتاب «العبقرى النبيل دون كيشوت»، ومع ملاحظة اختيار (جورينج) للكتاب رفيقا، أى وسيلة لمخاطبة العقل وتنشيط الفكر وتجدد الروح، علينا الانتباه إلى شخصية (دون كيشوت)، التى ترمى بظلالها على طبيعة شخصية (جورينج) وتفضيلاته الشخصية، كما أنها أول الأعمال التى تنتمى لما يمكن تسميته «الكتابة غير المشروطة»، تلك التى تمكّن الكاتب من إظهار كل ما هو ملحمى وغنائى وتراجيدى وكوميدى فى محاكاة ساخرة حقيقية لجميع الأنواع الأدبية، وكأنها رؤية ساخرة لسرديات البشر على مر التاريخ.
لا تفصيلة واحدة تأتى عبثا فى تفاصيل المشاهد لهذا الفيلم رغم الاحتشاد، فحين سألته باحثة المركز عن طعامه المفضل أجاب بعد تردد: «الحلزون»، فتلك الرخويات ذات القشرة الصلدة قادرة على التأقلم والتكيف فى أى ظرف بيئى.
اختار (تريماجاسى) سكينا حادا لتكون معه، ويحكى أنه دخل «الحفرة» نتيجة لغرقه فى التفاصيل، فنعرف من حوارهما أنها التفاصيل التى يقف من وراءها شره التسلع، وعبودية الأشياء التى تروجها الميديا، حيث لا تكف عن إغراق الإنسان فى التشيؤ وشهوة الامتلاك، فلقد باعوا له أولا سكين ساموراى ماكس، ثم بعد عام أقنعوه بمسن السكاكين ساموراى بلاس، مخطط من الإغواء وتجميل المنتجات، وهو ما يصب لصالح تضخم الرأسمالية العالمية.
يحكى (تريماجاسى) أن انفعاله بسبب الخداع هو ما جعله يلقى بالتليفزيون من النافذة، فوقع على رجل من المهاجرين، فتركه ميتا.
وللحوار فى الفيلم خصيصة التصويب الدقيق والمباشر، المعبر عن الأفكار والمعانى، التى يريد المؤلف على ألسنة الأبطال الإفصاح عنها، فتتوالى الحوارات فى الدرجة النقية للمعنى، دون أى تجميل أو التفاف، بل فى صورتها المباشرة لنقل دلالة واضحة لا تحتمل أى اهتزاز عن المعنى المحدد الذى تريده الشخوص بلا استثناء، هناك فقط كثير من الرموز الواردة فى الجمل الحوارية. كما تظهر أحيانا حالة من التردد والحيرة ليس فى طرح الأفكار، لكن فى تبين واختبار أيهما أصلح فى الممارسة مع البشر بسلوكياتهم الطامعة، أو العنيفة، أو الفردية، أو الغرائزية، أو من يريد إحداث فتنة، فعندما تطرح فرضية التضامن العفوى عن طريق الإقناع، يصبح بديل فشلها التضامن تحت التهديد أو بالقوة، فيظهر اختلاف معتقدات البشر، لكن يظل الحوار ينقل الأفكار واضحة دون بنية مجازية فى صياغة الأساليب، حتى لو بدت صادمة، وهو ما يتسق مع وضوح الأفكار التى يعالجها السيناريو.
ولقد تغلب المخرج على فقر الحوار نتيجة بقاء البطل وحيدا فى بعض الطوابق بتنشيطه من خلال مشاهد حلمية بين (جورينج) ورفيقيه اللذين ماتا، وهو ما يرجّح بينية تلك المشاهد فى وعى البطل بين اليقظة والحلم، كما تشى بعمق الصراع داخله.
ويصور المخرج مشاهد حلمية أخرى تفصح عن مخاوف (جورينج)، وميله لـ(ميهارو)، وهو الجانب المادى الغرائزى الذى يُلح على إبرازه بالإنسان، والكشف عنه فى مستواه المتجذر، وإلحاحه على لاوعيه العميق، كما تفصح كثير من المشاهد عن وحشية الإنسان وعنفه حال مواجهة فنائه، أو الحرب لنصرة أفكاره، فتغلب على كادرات التصوير محاولة تجسيد المجرد من الرؤى وتحويلها من مونولوج داخلى بين البطل وذاته إلى ديالوج مادى بينه وبين آخرين، ومواقف تجسد منطقهم واقتناعاتهم التى تتجادل، ففى الإنسان قوتان: قوة عقلية مدركة للمجردات والمعقولات، وقوة خيالية متصرفة فى عالم الأجسام، والسينما المدهشة هى القادرة على صهرهما معا. وللحديث بقية..