لقد بات مشهد الجدل والخلافات والاستنكار بين الأبناء والآباء عرضا يتكرر بكثرة فى العديد من الأسر والبيوت المصرية والعربية فى الأجيال المعاصرة، مناوشات مستمرة تندلع كل يوم، معارك ظاهرة أو مستترة لا يصيب اليأس طرفيها أو الرغبة فى الانسحاب، وغالبا ما يكون الصراع حول الحفاظ على قدر من النفوذ والحضور الدائم فى حياة الأولاد من جهة الوالدين، وانتزاع الحرية من الآباء والتخفف من قيودهم ورؤاهم فى كل شأن من جهة الأبناء.
هذا الصراع الذى تختلف أسبابه وطرق التعبير عنه بحسب طبقات المجتمع يتسبب فى شيوع حالة من التباعد والرفض المتبادل بين الطرفين للحد الذى يصل إلى التجاوزات اللفظية فى الحوار، أو قد يصل إلى رفض الحوار من الأساس وبقاء العلاقات هشة.
يريد الآباء ممارسة سلطتهم عبر مقولات يطلقها معظمنا من قبيل: لماذا تتناسى وجودى وتصر على مخالفة رأيى، لماذا تتحدث إلى على هذا النحو غير اللائق؟ أنا السبب فى وجودك بهذا العالم، وأنا من قمت بتربيتك وتعليمك، لماذا لا تستمع إلى نصائحى؟ وتزداد فداحة الأمر بأذهاننا حين نقارن بين أوضاعنا مع أولادنا، وما عشناه من قبل فى علاقاتنا مع آبائنا، حيث كانت المصادمات أقل وطأة، ضمن حوار أكثر تهذيبا واحتراما. فمن صفات الأجيال الأحدث أنها تعبر عن نفسها بطرق مباشرة حتى لو أنها تسببت فى جرح الطرف الآخر.
ويستنكر الآباء بالطبع أنهم صاروا آخر لأولادهم، فهم من ضحوا بكل شىء من أجلهم، ولذا ينتظرون فى المقابل قدرا من المحبة والاستماع والاحترام، وكأننا لا نعى أنها دورة حيوات مستمرة! نأتى فيها لنقوم بأدوار الرعاية والعطاءات، ربما تنحصر الصعوبة فى مشاهداتنا العينية لهاجس «قتل الأب» حيث نراه وهو يتجسد أمام أعيننا.
هل يرد على أذهاننا أحيانا أننا ربما نمارس أبوتنا بشكل تعسفى، نتداخل بحياة أولادنا أكثر مما ينبغى، كما نفرض مفاهيمنا عن الاحترام، وننسى أن معطيات العصر قد تغيرت، واختلفت رؤى الأفراد وأفكارهم عن طبيعة الحياة التى يستحقون أن يعيشوها، ومدى حرياتهم فيها؟
رفضنا لمتغيرات الحياة التى حدثت لن ينفيها. فتلك سمة عصر انهارت سردياته الكبرى ومقولاته السابقة، وصارت السيولة والتشظى يسيطران على كل الحكايات والأيديولوجيات حتى الدينى والفلسفى والأخلاقى القيمى.
لو سألتَ الأبناء ماذا ينقصكم فى العلاقة مع الوالدين؟ سيقول بعضهم: إن الآباء لا يحترمون الحدود ولا المساحات التى ينبغى أن تظل بيننا، لا يدركون أننا سريعا ما نتجاوز طفولتنا وصبانا فنحتاج لكثير من الاستقلالية التى لا يفرض فيها الوالدان رؤاهم. ويرون أن الآباء هم من اختاروا حياتهم وارتضوا أن يعطوهم، والعطاء والحب لا ينبغى أن يكون مشروطا.
ويقول البعض الآخر: إن ما يبدو غير لائق لدى الوالدين فى الحوار، وطريقة الحديث، وبعض المفردات التى نستخدمها يكون لائقا لدينا، ومتداولا بيننا، وأننا لا نتجاوز قواعد الاحترام من منظورنا ولا نتعداها. فيبدو الأمر كأن ما نعتبره نحن خروجا عن اللائق يعدونه هم عاديا.
ولو قلنا إن هذا يمثل خللا فى منظومة القيم وأن تلك القيم تحافظ على تواصل لائق، رفضوا تلك المقولات غير مستنكرين لوجود القيمة، لكن ليست كما نراها نحن.
الراصد لطبيعة الخلاف وقضاياه المختلفة يجد مساحة شاغرة فى المنتصف بينهما، أهم سماتها الاختلاف على قدر الحريات الممنوحة من الآباء، تلك هى المساحة التى من المفترض أن تظل محل بحث من متخصصى علم الاجتماع والنفس، وأن يتعامل معها الإعلام برسائل سريعة تحفز قدرا من التواصل الخلاق بين الطرفين.
تبدأ بعض الانهيارات فى العلاقة بين الطرفين حين لا يستمر الدعم المادى من الآباء للأبناء فى بعض الطبقات، والعكس أيضا يحدث، فبعضها الآخر ينشأ من الترف والرعاية الزائدة، فيعتاد الأولاد عدم تحمل المسؤولية، ويستمرؤون الأخذ فقط، أو حين يفقد الأب والأم مهابتهما عندما يكبر الأولاد ويشعرون بخلل فى شخصية أحدهما أو كليهما، أو يتبدى لهم درجات من الزيف فى حياة الأهل فى علاقاتهم فيشعرون بهشاشة الكيانات التى ينتمون إليها، فيفقدون قدرا من احترامهم لهما.
الملاحظ عند فلترة تلك الحالات طغيان قيم الفردية والذاتية، تلك التى تصل لدرجة الأنانية لدى الشباب، فالأولوية لهواتفهم، وأصدقائهم، وأعمالهم، وعوالمهم الخاصة، لا يشعرون بضرورة التزامهم بمساحة من الوقت تجاه آبائهم ولا رعايتهم، يرفضون الاستماع لخبرات الوالدين وكأنهم باستماعهم لهم يقبلون وصاية الآباء عليهم، يرفعون دوما شعار «لن أعيش فى جلباب أبى»، فيتخبطون كثيرا وهم لا يعرفون ماذا يريدون.
هل يريدون استقلالا كاملا دون استفادة من تراكم الخبرات لدى الوالدين؟ حيث يدعون أن عوالمهم قديمة لم تعد تصلح لحياتهم. فيصبح من الصعب على الكبار تحمّل تركهم تماما لخوض تجاربهم رغم علمهم أنهم لن يتعلموا ويقدروا المسؤولية إلا من خلال التجربة بأنفسهم. فميزة الشباب امتلاكهم لروح المغامرة وارتياد عوالم غير مأهولة، حيث تُعد تلك المغامرات مصدر تخوّف من الأجيال الأكبر.
الحلقة المفقودة قد تتمثل فى بسط مساحات الحرية من الآباء والمراقبة من بعيد، فى التأكيد على منظومة القيم الأخلاقية منذ النشأة الأولى فى العائلة، ثم فى مراحل التعليم كلها، تتمثل أيضا فى وعى الشباب أننا كائنات بحاجة للدعم مهما تفوقت قدراتنا، ولن يهبنا شخص حياته بطيب خاطر سوى والدينا.