الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أصل من أصول الإسلام وهو يمثل عنصر التكافل الاجتماعى كما تمثل الزكاة التكامل الاقتصادى، وقد قدمه القرآن الكريم فى بعض الحالات على الصلاة والزكاة فقال: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» (التوبة:71).
الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر - بهذا الفهم - لا يمثل «إشكالية» من أى نوع، بل إنه بجانب حفاظه على المجتمع يمثل الحرية فى الفكر والتعبير والمساهمة فى عمل المجتمع، ولا ينال من مكانته ولزومه أن البعض أساء استعماله فلجأ إلى رفع قضايا «حسبة» على الكتاب والمفكرين، لأن حق التقاضى من حقوق الإنسان وضمانات الحرية ولأن الأمر سيبت فيه القضاء، فإذا كان له حق، فلا ملام عليه، وإن لم يكن له حق فيمكن للذين اتهمتهم أن يعودوا عليه وأن يطالبوه بالتعويض أو الاعتذار.
بدأ أول مظاهر الإشكالية مع بروز حديث «من رأى منكم منكراً فليغيره».. إلخ، لأن الحديث نقل القضية من «الأمر» إلى «التغيير»، والتغيير يخرج عن إطار القول ويدخل منطقة العمل التى يجب أن تحاط بضمانات لأنها يمكن فى غيبة هذه الضمانات أن تسىء إلى الغير، وأن تحدث من الشر والأذى أكثر من أرادت أن تتفاداه.
فلا يستقيم أن تعطى شخصاً حرية أن يستخدم يده لإصلاح ما رآه منكرًا، لأنه هنا يجمع ما بين المدعى والقاضى، بل والممارس للتنفيذ، ولا يعنى هذا إلا الفوضى وشل الضمانات التى وضعها القانون لمن يستخدم «يده»، بل إن القانون يستبعد التغيير باليد من الأفراد لغلبة احتمال الإساءة فى التصرف، مما يوجب حصره فى السلطات المعنية التى تمارسه فى ضوء الضمانات التى يضعها القانون.
إن تفسير حديث «من رأى منكم منكرًا»...إلخ، لابد أن يستصحب الآيات العديدة التى حدد الله تعالى بها للرسل طريقة التبليغ، وضرورة الاقتصار عليه، فمن غير المعقول أن يتصور أحد من عامة المسلمين أو خاصتهم أنه أكثر غيرة على الإسلام من الرسول أو أن عليه أن يفعل أكثر مما وجه القرآن رسوله: «لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ الله يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ» (البقرة:272)، «إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ» (القصص:56).
■ ■ ■
وصلت «الإشكالية» إلى قمتها عندما كونت السعودية فى العقد الثالث من القرن الماضى مجموعة خاصة (وصل عددها إلى خمسة آلاف) لمهمة واحدة هى تطبيق «تغيير المنكر».
وتحدث عن هذه الهيئة كاتب فى مجلة (المجلة) العدد 1055 فى 13 أبريل سنة 2000م، فقال: «كان أعضاء الهيئات يمشون فى الأسواق فيمنعون الاختلاط والسفور ووقوف الرجال فى طريق النساء لغير حاجة، وتطفيف المكاييل والموازين، وظلم الدواب، كما يمنعون الحلاقين من التعرض للحى زبائنهم بقص أو حلق، ويؤدبونهم على ذلك ويمنعون القزع (هى قصة من قصات الشعر كانت منتشرة فى أواخر الستينيات، وطوال فترة السبعينيات)، ويقومون بقص الرأس المقزوع، ويمنعون التدخين ويؤدبون عليه ويصادرون التبغ من الدكاكين ويحرقونه ويؤدبون بائعيه، ويقيمون الناس إلى الصلاة حين المناداة لها، وإذا عثروا على من ارتكب حداً رفعوا أمره إلى رئاستهم فيتولى المحققون فيها التثبيت مما فعله المتهم، ثم يرفعون نتائج التحقيق إلى الرئيس العام فيصدر بدوره ما يلزم من جلد أو نفى أو حبس، ويمنعون تصوير ذوات الأرواح ويكسرون صورها، ويمنعون اللهو الحرام ويكسرون ما يجدون من آلاته من دون أى قيد ومهما كان ثمنها، ويمسون من يجدون هذه الأشياء فى حوزته بشىء من العقاب الفورى جزاء على حيازته لهذه الممنوعات شرعًا، كما أن هناك سجنا خاصاً بالهيئات، يودعون فيه من يجدونه من المذنبين، فيقضون فيه ما حكم عليهم من حبس وخلافه» أ.هـ.
ومنذ أن كتبت هذه الكلمات وقد مضت الهيئة فى عملها قدماً لا يوقفها أحد (ويقال إن الملك وحده هو الذى يمكن أن يحاسبها) رغم تجاوزاتها، وفى مارس سنة 2002م اشتعلت النيران فى إحدى مدارس البنات، فمنع أعضاء الهيئة رجال الإطفاء من الدخول، كما حالوا دون خروج التلميذات غير محجبات، مما أدى إلى احتراق 15 طالبة.
وأشارت جريدة (البديل) فى 30/11/2007م إلى حالتين، بمناسبة تبرئة هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من تهمة قتل مواطن فقالت: برأت محكمة سعودية عضوى هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر «الشرطة الدينية» المتهمين بقتل مواطن سعودى داخل مقر الهيئة فى حى العريجاء بالرياض بحجة عدم كفاية وصحة الأدلة المقدمة من أصحاب الحق الخاص.
مع وجود مثل هذه الهيئة تصبح قضية التعامل مع الأمر بالمعروف إشكالية معقدة، ومخالفة صريحة لكل مبادئ العدالة وما انتهى إليه العالم من ضمانات للإجراءات الجنائية، وضمانات للقضاء، فهى تحوز سلطات تشريعية وقضائية وتنفيذية، فتتولى تفسير الإسلام ثم تحكم هى نفسـها على المتهم طبقاً لهذا التفسير، ثم تطبق العقـوبة بنفسها التى أصدرتها، ومثل هذا الجمــع بين السلطات الثلاث يجعلها دولـة داخل الدولـة، دولة كل مهمتها الإرهاب!.
وكيف إذن يمكن القيام بهذه المهمة المقدسة التى أكدها القرآن الكريم؟
نقول أن هذا ممكن:
أولاً: باستبعاد كل محاولة للتغيير بين الأفراد باليد إلا فى حالات تتطلب التدخل الفورى.
ثانيًا: استبعاد تكوين هيئة مثل هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لعدد من الأسباب:
أنها خروج على النظام القضائى المقرر وتعطى سلطات القضاء دون ضمانات القضاء.
لأنه ليس من شأن الدولة القيام عن طريق أجهزتها الرسمية بدور فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأى جهد أو عمل يتم عن طريق الدولة يفقد أصالته ويتعرض لكل سوءات العمل الحكومى، فضلاً عن أنه لا يصدر عن إيمان، ولكن عن سلطان، وبالتالى فلا يكون له قيمة.
ثالثاً:إن الصورة القديمة للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر التى كانت تتركز حول تحطيم قنانى الخمور وكسر المعازف وآلات الموسيقى وتحطيم التماثيل يجب أن تنتهى، ويجب أن يأخذ الشكل الجديد للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر شكل جمعيات وهيئات ومنظمات للمجتمع المدنى, وأن يضم موضوعها مجالات مثل إشاعة الثقافة والمعرفة والإلمام بالمهارات المطلوبة للمجتمع وتعليم الجاهلين، وقضايا العدالة الاقتصادية والتكافل الاجتماعى...إلخ.