جلس أحد ممثلى السلفيين بلحيته وزبيبة الصلاة كأنها ختم النسر، وأخذ يؤكد للمذيع فى أحد الحوارات التليفزيونية أن الشريعة هى الإسلام.. وفيها كل ما فى الإسلام، وعبثاً حاول المذيع أن يستخلص منه أو يتعرف منه على معلومة مميزة، ولكنه كان يعيد ويزيد ما قاله!!..
وهذا ببساطة لأن الأخ المحترم لا يعرف ما هى الشريعة بالضبط، ونحن نقول للأخ إن الشريعة ليست هى كل الإسلام، وإن هناك فرقاً بين الإسلام والشريعة، وإن المسلمين أمضوا مع الرسول ثلاثة عشر عاماً فى مكة يمارسون الإسلام دون أن تكون هناك شريعة، لأن الشريعة إنما ظهرت فى المدينة، وحتى نعرّف الإخوة الذين يتعالون على الناس ننقل لهم ما كتبه عالم عظيم هو الشيخ محمود شلتوت الذى كان شيخاً للأزهر فى كتاب له خصصه باسم «الإسلام عقيدة وشريعة»، فقال: تلقى محمد عن ربه الأصل الجامع للإسلام فى عقائده وتشريعه، وهو القرآن الكريم، وكان القرآن عند الله وعند المسلمين المصدر الأول فى تعرف التعاليم الأساسية للإسلام، ومن القرآن عرف أن الإسلام له شعبتان أساسيتان، لا توجد حقيقته ولا يتحقق معناه إلا إذا أخذت الشعبتان حظهما من التحقق والوجود فى عقل الإنسان وقلبه وحياته، وهاتان الشعبتان هما «العقيدة والشريعة»:
(أ) العقيدة: وهى الجانب النظرى الذى يُطلب الإيمان به أولاً وقبل كل شىء، إيماناً لا يرقى إليه شك، ولا تؤثر فيه شبهة، ومن طبيعتها: تضافر النصوص الواضحة على تقريرها وإجماع المسلمين عليها من يوم أن بدأت الدعوة مع ما حدث بينهم من اختلاف بعد ذلك فيما وراءها، وهى أول ما دعا إليه الرسول، وطلب من الناس الإيمان به فى المرحلة الأولى من مراحل الدعوة، وهى دعوة كل رسول جاء من قِبَلِ الله، كما دلّ على ذلك القرآن الكريم فى حديثه عن الأنبياء والمرسلين.
(ب) الشريعة: وهى النظم التى شرعها الله أو شرع أصولها ليأخذ الإنسان بها نفسه فى علاقته بربه، وعلاقته بأخيه المسلم، وعلاقته بأخيه الإنسان، وعلاقته بالكون والحياة.
العقيدة أصل والشريعة فرع: والعقيدة فى الوضع الإسلامى هى الأصل الذى تبنى عليه الشريعة، والشريعة أثر تستتبعه العقيدة، ومن ثم فلا وجود للشريعة فى الإسلام إلا بوجود العقيدة، كما لا ازدهار للشريعة إلا فى ظل العقيدة، ذلك أن الشريعة دون العقيدة علو ليس له أساس، فهى لا تستند إلى تلك القوة المعنوية التى توحى باحترام الشريعة، ومراعاة قوانينها، والعمل بموجبها دون حاجة إلى معونة أى قوة من خارج النفس.
صلة العقيدة بالشريعة: وإذن فالإسلام يحتم أن تعانق الشريعة العقيدة بحيث لا تنفرد إحداهما عن الأخرى، على أن تكون العقيدة أصلاً يدفع إلى الشريعة، والشريعة تلبية لانفعال القلب بالعقيدة، وقد كان هذا التعانق طريق النجاة والفوز بما أعد الله لعباده المؤمنين. (انتهى).
وفى كتابنا «حرية الاعتقاد» قلنا: «الإسلام أساساً وإن لم يكن حصراً، عقيدة وشريعة، وموضوع العقيدة هو البلورة التى قدمها الإسلام للألوهية والرسالة، واليوم الآخر، وما تكون عليه العلاقات بين الناس والله.
وموضوع الشريعة هو المعاملات والقانون والسياسة والاقتصاد، وما تكون عليه العلاقة بين الناس بعضهم بعضاً.
والعقيدة تتجه إلى الفرد والقلب، والشريعة تتجه إلى المجتمع والأوضاع.
والإسلام هو الدين الذى يجمع بين هذين فى إطار واحد محكم، وإن كان فسيحاً متيناً، وإن كان مرناً، وفى الوقت نفسه فإنه لم يجعلهما شيئاً واحداً لأنهما بحكم الطبيعة والاختصاص مختلفان.
ويُجمع العلماء على أن العقيدة هى الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، وأن الشريعة هى ما عدا ذلك مما تناوله الإسلام ليقدم نوعاً من الضبط للمجتمع، فتتعدد القوانين والنظم الاجتماعية والرجال والنساء والزواج والطلاق والبيع والشراء، وما إلى ذلك كله من «الدنيويات».
وهذا التمييز يقتضى أن يكون للعقيدة وسائل وأهداف تتميز عن وسائل وأهداف الشريعة.
من هنا يتضح أن هناك تميزاً ما بين وسائل ومجال وأهداف كل من العقيدة والشريعة، وأنها تختلف باختلاف التكامل لا اختلاف التعارض، وأن الأصل فى النهاية للعقيدة، لأن الدين يقوم أساساً ويتبلور حول فكر الألوهية، فأى دين لا يقوم بمعالجة هذه القضية لا يكون ديناً فى الحقيقة، ولكنه يكون نوعاً من الفلسفة التى لا يمكن أن تصل إلى ما تصل إليه فى الأديان، لأن كل ما يتعرض لله تعالى هو مما يجهله الأفراد، ومما لا يُلمس أو يُمسك وإنما تكون معرفته بناءً على الوحى الذى يرسله الله تعالى ليعرّف البشرية بشعاع من شمس ألوهيته الباهرة، ولهذا فلابد أن يكون فى الدين وحى، ولابد أن يكون فى الدين رسول أو نبى، ولابد أن يكتب هذا فى كتاب كالتوراة بالنسبة لليهود، والإنجيل بالنسبة للنصارى، والقرآن بالنسبة للمسلمين، حتى لا يلتبس ما يأتى به الرسول من تلقاء ربه بما يمكن أن يأتيه من تلقاء ذاته.
وهناك تعريف آخر قدمه الإمام ابن القيم الجوزية، وهو تلميذ ابن تيمية وزميله فى السجن، فقال: إن الشريعة هى العدل، وأكد ذلك فى مناسبتين.
والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذاتها وإنما المراد غاياتها التى هى المقاصد، ولكن نبه بما شرعه من الطرق على أسبابها وأمثالها، ولن تجد طريقاً من الطرق المثبتة للحق إلا وهى شرعة وسبيل للدلالة عليها.
إن «ابن القيم» بعد أن يقيم الشريعة على العدل فإنه يُخرج منها ما دخل فيها بطريقة التأويل إذا كان مخالفاً للعدل، كما يدخل فيها ما لم تذكره الشريعة على وجه التحديد إذا كان يؤدى إلى العدل، لأن «الطرق» لا تراد لذاتها وإنما المراد غاياتها التى هى المقاصد، ومقصد المقاصد هو العدل.
هذا مبدأ أصيل وقد وصل مع «ابن القيم» إلى أعمق أعماق الشريعة حيث جوهرها فأظهره ونبه عليه.
ومما يستحق التنويه أن هذه النبذة السابقة، جاءت تحت عنوان «فصل فى تغيير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد»، وهذا مبدأ يمثل المرونة والتكيف مع الأوضاع، مما يدخل فى صميم التجديد.