أعجلنا الدستور عن أن نتمَّ مقالنا السابق، وجعلنا ندفع بهذا المقال لأن الوقت أصبح وقته، فالجميع يتحدثون عن الدستور، فقد ظهر هذا الدستور وهناك فئة متربصة به هى المجموعة السلفية التى دخلت الجمعية التأسيسية، حتى لا يدس العلمانيون مادة تمس الإسلام، وجعل ذلك لهم آذاناً مسترقة تسمع الأوهام وتعطى الكلمات معنى أكبر وأكثر من معناها، بل أكثر من ذلك أن حسها الإسلامى جعلها تدفع بالأزهر فى المادة الرابعة وتحت الباب الأول عن مقومات الدولة والمجتمع، وأيضاً وبالذات المقومات الأساسية، فتحدثت عن الأزهر «الشريف» ـ وكلمة الشريف هنا عندما تأتى فى وثائق رسمية يحتمل أن تكون محل نزاع ـ «هيئة إسلامية مستقلة جامعة يختص دون غيره بالقيام على جميع شؤونه...»، وهنا نوع من الحشر الذى لم يكن له داع لأنه من غير المعقول أن يختص غيره بالقيام على جميع شؤونه، «ويتولى الدعوة الإسلامية وعلوم الدين واللغة العربية فى مصر والعالم، ويؤخذ رأى هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف فى الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية...»، نكتفى بهذا القدر لنقول إنه تضمن عدداً كبيراً من الأخطاء منها أنه لم يكن سائغاً أن يوضع الحديث عنه تحت الباب الأول وهو مقومات الدولة والمجتمع مما يحتمل معه أن يقال إن ما يمس الأزهر يؤثر على الدولة والمجتمع، لا نريد أن نستطرد..
ولكن لا يجوز أن نحط من معنى المقومات الرئيسية، بحيث نعتبر أن الأزهر كمنشأة من هذه المقومات، لقد ظهرت هذه المقومات قبل الأزهر بعشرات الألوف من السنين، ويمكن أن تستمر بعده أيضاً، لأن من أكبر الأخطاء أن نجعل الأزهر كمؤسسة رمزاً للدين، لأن ما يمكن أن نرمز به للإسلام هو القرآن الكريم مثلاً أو الرسول وما حمله من رسالة، أما أن نجعل من إحدى المؤسسات رمزاً للإسلام فهذه هى «البابوية» التى حدثت فى الأديان السابقة وحذر منها الإسلام، وكيف أفسدت المسيحية وحوَّلتها من ديانة الرحمة والمحبة والتسامح إلى محكمة تفتيش بغيضة تمارس أسوأ صور التعذيب والإرهاب مع خصومها، وظلت على إفسادها حتى هدمتها الثورة الفرنسية، وعفّى على آثارها نابليون، وإذا كان هناك درس يمكن أن يقدمه تاريخ الأديان فهو حذار من المؤسسة الدينية!!
من أجل هذا فنحن لا نرى فى وضع الأزهر من المقومات الرئيسية للمجتمع إلا حساً عميقاً بأهمية وضع الأزهر وجعله المؤسسة التى ترمز للدين، وفى هذا من الخطورة ما يمكن أن يتطور إلى الصور التى تأتى بها البابوية وجماعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ومن أجل هذا حرص القائمون على هذا الدستور على وضع الأزهر فى صدارة المقومات الرئيسية للمجتمع، ولكنه لا يشفع ولا يجوز، ويجب أن تتأخر المادة إلى الحديث عن مواد الهيئات التى تلحظ المتابعة والمقاومة والأجهزة الرقابية.
وفى نظرنا أن الدور الحقيقى للأزهر الذى يجب أن يكون تركيز الفكر فيه باعتباره الهيئة الجامعة العظمى للفكر الإسلامى أن تكون مهمته هى تجديد الفكر الإسلامى وتنقية الكتب التراثية التى تكبس بأنفاسها الثقيلة على الفكر الإسلامى، وهذه المهمة اعترف بها الكل ورآها الكل، وتحدث عنها الدكتور عبدالمنعم النمر فى مجلة «العربى» (العدد 121، يناير 1969م) فى مقال بعنوان «التفسير والمفسرون» دعا فيه إلى تنقية تفسير الطبرى بكل ما حواه من إسرائيليات وأحاديث ضعيفة وحذفها من النسخ المطبوعة، وترك النسخ التى توجد فى الجامعات لأغراض البحث.. بحث الباحثين وإجراء المقارنات العلمية، وكان جديراً والكاتب وصل إلى أعلى مستويات، فبلغ مشيخة الأزهر ووزارة الأوقاف ونشر فى مجلة من أهم مجلات العالم العربى ـ أن يكون لمقاله أثر، ولكن لا أحد عُنى بالأمر كأنها صيحة فى واد.
وفى سنة 2008م قدم أ.محمود رياض مفتاح، المحامى بالإسكندرية، دعوة يطلب فيها من الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية تطهير كتب التراث وبوجه خاص السُّـنة، ولكن محامى الأزهر قال إن الذين قدموا الدعوى «أعداء السُـنة»، فرد عليه المستشار أحمد الحسينى، رئيس المحكمة «أعداء السُـنة هم الذين يمتنعون عن البحث عن الحقيقة»، وشدد الحسينى على أن الأزهر عليه أن يدرس كتب الأحاديث النبوية دراسة دقيقة ويستبعد الأحاديث غير المسندة لراوٍ موثوق به، مضيفاً أن الأزهر قد أنشئ من أجل ذلك، وطلب «الحسينى» من محامى الأزهر ضرورة إحضار ما يوضح الجهود المبذولة من قبل الأزهر فى تنقية كتب الصحاح الستة من الأحاديث الدخيلة، إلا أن محامى الأزهر لم يتقدم بأى دفاع أو مستندات، الأمر الذى جعل المحكمة تؤجل الحكم فى الدعوى ثلاث مرات متتالية وتغريم الأزهر للامتناع عن الرد، ولما نظرت القضية أخيراً كانت المفاجأة العظمى أن المحكمة تؤيد الأزهر وتكرر كل ما قاله مندوبه عن عداوة منكرى السُّـنة للسُّـنة، وأنهم أعداء الإسلام، وقضت بشطب الدعوى، ولكن ذلك لم يثن أبطالاً فى مجال الفكر الإسلامى، فقام المحامى المستشار أحمد عبده ماهر برفع (قضية رقم 3393/65 ق) بخصوص تجديد الفقه على المذاهب الأربعة، وكذلك قضية أخرى برقم (47133/64 ق) بخصوص تنقية صحيح البخارى ومسلم فى 28/12/2010م، وننتظر ما ستسفر عنه هاتان القضيتان.
فما هذا الإصرار العجيب على الأخذ بحديث عكرمة وقد رفضه الإمام مسلم، وهذا الحرص على تنفيذ حد الرجم على الزانى المحصن، وقد تبرأ الرسول نفسه من أن يكون قد أحل حراماً أو حرم حلالاً، وقال: «الحلال ما أحله الله فى كتابه والحرام ما حرمه الله فى كتابه، وما بينهما عفو، فاقبلوا من الله عافيته فإن ربك لم يكن نسياً»، وكيف لم تطرق آذانهم تلك الآيات الصادعة التى جاء فيها «وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً» (الإسراء:74-75).
أما نحن فحديثنا مع الأزهر هو العجب العجاب، وآخره أنهم أعطوا أنفسهم حق مصادرة خمسين نسخة من خمسين كتاباً كانت مصدرة إلى دولة الكويت، وكان هذا منذ سبع سنوات، وحتى الآن لم يفيدونا برد، وقيل إنهم برأوا خمسة عشر كتاباً وحرموا خمسة عشر كتاباً، وما زالوا ينظرون فى العدد الباقى، ونحن من ناحيتنا أهملنا الأمر جملة وتفصيلاً.