لسنا فى حاجة للإشارة إلى أهمية القيادة، ففى كل المجتمعات إذا كانت القيادة حسنة تقدم المجتمع، وإذا كانت سيئة تأخر المجتمع، ويصدق هذا فى كل المجالات، ويقدم لنا القرآن المبادئ الرئيسية للقيادة فى الإسلام، هذه المبادئ التى استوعبها تمامًا وآمن بها الرسول وطبقها باعتباره قائد الأمة الإسلامية، وانتقلت منه إلى النواة المحدودة التى صاحبته صحبة طويلة، وبوجه خاص وزيريه أبو بكر وعمر وهما اللذان وضعا الأسس التى تقوم عليها الدولة الإسلامية وفى صدارتها دور القائد رئيس الدولة الذى حمل اسم خليفة رسول الله ثم أمير المؤمنين.
وهناك مصدر آخر لم يكن من صميم الإسلام، ولكن الإسلام تبناه لأنه لم يكن غريبًا عليه أو بعيدًا عنه، تلك هى بعض الصفات التى ارتأى العرب قبل الإسلام أنها مؤهلات القيادة، وكان هؤلاء العرب مثل «الفايكنج» فى الشجاعة والقوة وتحمل شظف العيش وقسوة الحياة ولئن كان «الفايكنج» يعيشون على شاطئ المحيط الأطلسى فإن العرب كانوا يعيشون وسط محيط الرمال التى لا يوجد فيها زرع أو غابات أو جبال وإنما هو السطح الممتد آلاف الأميال شأنه شأن سطح المحيط، وقد أعطت هذه الصحراء الإسلام بعض خصائصه، ولا يرى المسلمون حرجًا فى ذلك لأن إرادة الله تعالى أن يظهر الإسلام فى هذه الأرض لا يخلو من دلالة ومن ارتباط، وقد قال الرسول رغم مهاجمته القوية «للجاهلية» أى ما قبل الإسلام «إن خيار الناس فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام إذا فقهوا».
ويماثل هذا أن البيئة العربية الشحيحة الموارد فرضت على العرب نوعًا من التقشف، وقد يكفى العربى عند الضرورة بعض تمرات وقليل من اللبن، وهذه الصفة التى كانت بنت الضرورة أصبحت خليقة بل وفضيلة، فلم تعرف القيادة فى الدولة الإسلامية حتى وصلت إلى مستوى الإمبراطورية من مظاهر البذخ والسرف التى عرفت فى الإمبراطورية الرومانية والفارسية، ولم يختف هذا التقليد إلا فى النصف الثانى من الدولة العباسية عندما سيطر الفارسيون والترك على الخلافة.
فلننظر الآن إلى أبرز توجيهات القرآن للرسول وأهمها الالتزام والموضوعية، فالقيادة فى الإسلام رسالة، وفى اصطلاحاتنا الحديثة يقابل ذلك «الدستور»، وبقدر الالتزام الدقيق من القائد لمبادئ الرسالة بقدر ما يطبق المبادئ القرآنية، ويحذر القرآن القائد بنوع خاص من الطموح لأنه وإن كان جزءًا من مكونات القيادة فإنه ما لم يقترن بالحكمة والحذر والشورى ومقاومة الإغراء، والحذر من تجاوز إطار الرسالة، ويتعرض القائد لعملية نفسية جماعية دقيقة يتداخل فيها الطموح الذاتى بالهدف العام ويتمازجان حتى يصبحا شيئاً واحدًا وقد يمثل ذلك قولة لويس الرابع عشر (أنا الدولة)، أو انحراف لينين عن الخط الموضوعى والأصيل لكل أدبيات الاشتراكية وتداعياتها من حرية ومساواة وجماهيرية وعدالة إلى سياسة المركزية الديمقراطية فى السياسة والأخذ بالتيلورية فى العمل، وقمع المعارضة العمالية.. إلخ..
وقد لا نجد كتاباًَ عـُـنـِى بمثل هذه النقطة وفصَّل فيها ونبه عليها مثل القرآن الكريم فالقرآن يسلم بالضرورة وجود القائد ولكنه يجعله «رسولاً»، ومعنى هذا أن يستبعد كل المعانى الذاتية «لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَىْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ» (آل عمران 128)، وهو يؤكد أن دور الرسول هو البلاغ، ويسوقه فى صيغة الحصر «إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ»، «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا» (القصص 56)، وأنه ليس جبارًا ولا حفيظاً، ولا حتى وكيلاً عن الناس، وهو يوجهه لكى لا تستبد به الرغبة فى الهداية إلى الدرجة التى قد يغلب فيها المعنى الخاص المعنى العام، رغم أن دور الرسول أن يهدى الناس وبقدر ما ينجح فى هداية أكبر عدد بقدر ما يُعد مؤديًا لرسالته، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة لاحتمال تداخل المعنى الخاص فى المعنى العام، ولأن هناك أناسًا لا يمكن هدايتهم لأسباب عديدة، فليس من دور الرسول أن يهديهم قسرًا «ومَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكى» (عبس 7)، «فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» (الكهف 6)، «إِنَّكَ لا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ» (القصص 56)، «وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِى السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ» (الأنعام 35)، «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (هود 118-119)، «إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِى مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ» (النحل 37).
وإلحاح القرآن الكريم على هذه النقطة ومعالجته لها من جميع نواحيها وما يتسم به حديثه عنها من حسم وقوة، يوضح خطورتها، وإذا كانت بمثل هذه الخطورة، حتى على الأنبياء والمرسلين الذين تحوطهم هداية الله ورحمته، ويتنزل عليهم الوحى من السماء، فما بالك بخطورتها على القادة العاديين؟.. إن سجلات التاريخ حافلة بمصارع الطامحين والويلات التى ألحقوها بشعوبهم.
وهناك نصان على أعظم جانب من الأهمية:
الأول: «وَشَاوِرْهُمْ فِى الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» (آل عمران 159)، وقد جاء النص فى أعقاب موقعة أُحد التى هزم فيه المسلمون لأن الرماة خالفوا أوامر الرسول، فإن يأتى نص يوجب عليه أن «يشاورهم» له دلالة، وكأن القرآن خشى أن تدفع هذه المخافة الرسول لأن يقلع عن الشورى.
والثانى: «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ» (الشورى38)، وهو نص عام يجعل الشورى صفة من صفات الممارسة الإسلامية وأقرب تأويل لكلمة شورى هو «الديمقراطية».
ومن نافلة القول أن الرسول طبق التوجيهات القرآنية تمامًا، وهذا أمر ما كان هو نفسه ليستطيع مخالفته، لأنه جاء فى آيات قرآنية يقرأها جميع المسلمين، أعتقد أن الإسلام قدم شيئاً قيمًا ومحددًا عما يجب أن يلتزم به القادة فإذا كانت هذه قد أهملت فليس هذا ذنب الإسلام وإنما هو ذنب الجماهير والقادة الذين لم يلتزموا بها، ولعل القيادات اليوم فى أشد الحاجة لأن يستلهموها من جديد، ولعل الغرب أيضًا فى حاجة إليها ليوجد نوعًا من التوازن ما بين الحرية المطلقة والدرجة المطلوبة من الالتزام.