نيويورك تبتسم بثغرها الثلجى وتقول: «صباح الخير».
استيقظ من نومه ففتح النافذة على الفور. الضوء ينهمر كشلال نور، مِطيّبا بالسكينة وندى الصباح!
الصباح رائق ومستحم بالهدوء. وكأن الكون طفل يبتسم لأمه فور استيقاظه من النوم، قبل أن ينهمك فى الشقاوة والصياح. ابتسم داخله شاعراً بالابتهاج! الصباح زمن السكينة والهدوء. لكم يعشق هذا الوقت من اليوم.
انخرط فى صلاة عميقة! بعدها بدأ فى التسبيح.
يشعر كل يوم بأنه يرق ويصفو. فى شبابه لم تكن لديه هذه الفسحة من الوقت! كان التحدى مذهلا، أو كما يصفه الإنجليز قاطعا للرقاب!. لذلك كان يرتشف كأس الحياة بسرعة خاطفة ثم ينصرف إلى أعماله العاجلة.. والآن صار أكثر تعلقا بمباهج الروح. لم يعد الحل أن يستزيد من المتع أو يشرب الكأس تلو الكأس! سرعان ما أدرك أن الإنسان مهما بلغ نجاحه لا يملك سوى جسد واحد ومعدة واحدة! الحل الوحيد المتاح أمامه أن يمعن النظر فى بواطن الأشياء! أن يبحث عن القوانين المرهفة التى تحكم مصائر الإنسان.
الآن لم يعد يشرب الكأس بسرعة كما كان يفعل من قبل، وإنما صار يمسك الكأس برقة وإعجاب! ثم يشرع فى تأملها ويعجب لصفائها البلّورى! ثم يشرع فى تناول نصيبه من رحيق الحياة! يرتشفه برضا! يرتشفه بتمهل! يرتشفه باستمتاع! ثم يستبقيه فى فمه أطول فترة ممكنة قبل أن يبتلعه، رافعا صلاته إلى ربه: الحمد لله.
منذ ذلك الحين صار أشد تقديرا للنعم البسيطة التى تصنع الحياة!
شرع يستنشق نسائم الصباح الباردة فى نهم واستمتاع! وعن مقربة شاهد طائراً يقف على غصن شجرة. شرع يدقق فيه والطائر يبادله النظرات.
قال للطائر: «صباح الخير». وساد الصمتُ وهبت رياح باردة تحملها الطائر فى ثبات. قال معاتبا: «الناس فى بلادنا يردون التحية بأحسن منها. فلماذا أراك أيها الجميلُ بخيل الكلام؟!». قال الطائر فى اقتضاب: «ولماذا أفسد اللحظة بالحديث عنها؟ كثيرا ما يكون الصمت أبلغ من الكلام».
تأمل فى كلامه قليلا، ثم قال: «هل يمكن أن نتعارف؟! لا شك أنك تملك خبرة لا أملكها عرفتها من تعاقب المشاهد ورؤية البلدان! أقدم لك نفسى. النوع إنسان! الجنسية مصرى! كما ترى جئتُ من مكان بعيد». وهز الطائر ذيله، وقال: «وأنا طائر! موطنى حيث تحملنى الريح ويرتحل السحاب».
قال فى ترحيب: «ما أجمل ذلك! أعتقد أنك شاهدتَ الكثير». رد الطائر باقتضاب: «شاهدت ما يكفينى لكى أحب الله».
قال فى اهتمام: «كلامك يشرح الصدر. أتعرف؟! ربما يبدو ما بيننا بعيدا جدا. لكن أتدرى أن أوجه التشابه بيننا أكثر مما تتصور. أنا مخلوق وأنت مخلوق. كلانا ينبش أرضه ويسعى خلف رزقه ويعيش دورة حياته، ثم كلانا يلحق بربه فى نهاية المطاف!».
هز الطائر رأسه فى رضا. وقال له: «أحسنتْ». تشجع وسأله مشيرا برقة إلى سجادة الصلاة: «أخبرنى ما علامة صدق المحب؟». قال الطائر وهو يتأهب للطيران: «أن تفنى ذاته فى عشق المحبوب».