كان القطار يقترب من محطته وهو مشلول الفكر تماماً، يرنو بعين نملة إلى مخاوفه التى تلوح له كالجبال. إن العثور على وظيفة ملائمة يبدو مستحيلاً. ثم إن أصحاب العمل يفضلون - والحق معهم - الشباب الغض، الذى يعمل بنشاط ويقنع براتب محدود. لقد كانت حياته الماضية تمضى فى هدوء رتيب وكان قانعا بها، ولكن كل ذلك قد تغير الآن.
يود لو يتسلل الآن تحت سريره مثلما كان يصنع فى طفولته كلما فر من موقف عصيب أو يتكور على نفسه مثلما كان يفعل وهو جنين فى رحم أمه.
ومرة أخرى لاحت له صورة الرجل المسكين وهو مبتل تماما. ساخطا تماما. مُمعنا فى السباب. عادت له الذكرى هذه المرة دون أن يأسف لها. ثمة شىء يثير الضحك فى هذا المشهد، لم ينتبه لطرافته من قبل. يشبه إسماعيل يس فى أفلامه الهزلية التى تروق له. كم كان الرجل مضحكا وقد اتسخت ثيابه وابتلت تماما.. ها ها والطريف - هكذا تشبث بالمشهد كى لا يتذكر واقعه المؤلم - أنه كان يشير له أن يتمهل بمنتهى الوقار. ها ها إن كبرياءه قد ضاع تماما مثلما اتسخت ثيابه الأنيقة، نعم. يذكر الآن جيدا أنه كان يرتدى رداء عنق صارخ الألوان لا يناسب الصباح، يذكر هذا جيدا. ها ها، والطين تناثر على وجهه وعينيه. كان يحاول أن يفتح عينيه ويمسح الماء المتسخ ويئن. هاها. هذا الوغد.
لم يعد الأمر مزاحا، السيارة الزرقاء تقترب والطرقات موحلة، لا تلق بالا بالوقار، استدر فى تلك اللحظة بالذات ولتعدو بأقصى ما يمكن لساقيك أن تحملاك.
عندما مضى بسيارته الزرقاء صوب منزله تكشف له أن السماء أمطرت أثناء غيبته. قاد السيارة ببطء فقد أوشك الطريق على أن يتوقف تماما من تكدس السيارات.
لم يكن - والحق يقال - متعجلا للعودة لمنزله ومصارحة زوجته بالحقيقة المروعة والتفكير الجدى فى المعضلة التى لا يبدو لها حل. مضى يتأمل المارة من خلال زجاج سيارته المبتل، البعض يسيرون وقد شمروا عن سيقانهم وبعضهم يمضون فوق الأحجار.
ودون قصد مرت سيارته على فجوة مليئة بالماء الذى تناثر على ثوب أنيق لسيدة تسير على الإفريز المقابل، توقفت على الفور ولوحت بيديها ساخطة وهى تتأمل بحسرة البقعة الطينية المتسعة على ثوبها الأنيق.
ها ها ها.
كان المشهد مضحكا للغاية، وأشد طرافة منه ذلك الرجل العجوز الذى تسلل الوحل إلى عينه، ومضى يفركها ويئن بصوت مرتفع.. ها ها ها، كم يشعر بالمرح! ها ها إسماعيل يس. تماما مثل أفلام إسماعيل يس.
الذى حدث بعد ذلك كان مروعا، انطلقت السيارة الزرقاء بسرعة فائقة فى الطرقات الموحلة وأثارت فزعا داهما فى قلوب المارة، الذين تلطخت وجوههم وثيابهم بالوحل، واستُمطرت لعنات ولعنات، وأمست الحياة أشد قسوة على الزوجات المعنيات بغسل الثياب.
وعندما توقفت السيارة أخيرا أمام منزله كانت عيناه دامعتين من فرط الضحك، إسماعيل يس! بالفعل إسماعيل يس!