تنفستُ الصعداء حين خرجت من هذا المكتب الموبوء. شاهدت سجادة جديدة تصعد على أعناق الرجال فشعرت براحة الخلاص ممتزجة بالرثاء لها. حملنى البواب لبائع الروبابيكيا. مكثتُ فى الدكان القديم لعدة أيام مع الأشياء القديمة التى استغنى عنها أصحابها: كرسى خشبى قديم مهتز القوائم، ستارة رثة ممزقة من جانب، كنبة إستنبولى مهشمة القاع، مكتب إيديال معدنى بارد، إطار لصورة مذهبة رخيصة، ساعة حائط منزوعة العقارب، دولاب بأبواب متأرجحة، سرير يعود إلى العصر الحجرى، سلسلة مفاتيح صدئة، تليفزيون أبيض وأسود، راديو فى حجم الكنبة، أشياء قديمة يخطئها العد، لكن يجمع بينها العذاب.
تبادلنا التحية. تعرفنا إلى بعضنا البعض. انخرطنا نحكى ذكرياتنا القديمة، ونتأسف على ما صارت إليه أحوالنا، ونشفق على أنفسنا مما ستأتى به الأيام. وبالفعل لم يطل انتظارى، جاءنى شاب يبدو عليه الفقر والخشونة، وبجواره امرأة شابة متواضعة الثياب والجمال. شرعا ينتقيان ما يمكن استخدامه من هذه الكراكيب القديمة، وكنتُ أنا ضمن المشتريات. لم أصدق سمعى حينما سمعت البائع يناديها بـ«العروسة»! لم أفهم لماذا تقبل العروس بهذه الكراكيب!
كدسنا البائع فوق سيارة نصف نقل قديمة. وشرعت السيارة تسير فى شوارع القاهرة، التى لا ترحم، وتئن فى المطبات. وسطعت شمس الشتاء فجأة، فاستعدت ذكرياتى العذبة حينما كنتُ فروة على ظهر خروف. كنتُ وقتها لا أرى إلا السماء الزرقاء الناصعة، وتصورت، لقلة خبرتى، أنه لا يوجد إلا اللون الأزرق النبيل. آه ما أكثر أوهامنا وأكثر ما نجهله عن تلك الحياة!
تركتْ السيارة الطريق العمومى، وبدأت تسلك طرقا ضيقة، فانتبهت وشرعت أنظر حولى منزعجة، أنا الذى ظننتنى شاهدتُ أسوأ ما فى الحياة. الشوارع تضيق وتتحول إلى حارات. والحارات تضيق وتتحول إلى أوكار، حتى أصبحنا فى مكان بائس عرفتُ أنهم يسمونه «عشوائيات».
توقفتْ السيارة. حملتْنى الأيدى الخشنة إلى داخل غرفة متآكلة الجدران. الغرفة بلا طلاء، وهواؤها راكدٌ ثقيل. تعيش الأسر بأكملها فى غرفة واحدة ضيقة، يأكلون ويتحركون ويتناسلون. وقطرات الماء تبللنى وتبلل الرؤوس. السقف ينشع ماءً. والجدران تنشع شقاءً. والعالم بأسره ينشع بؤساً وعذاباً. نظرتُ حولى فى ذهول. لم أتخيل أنه يوجد فى العالم مكان بهذا الضيق! بهذا الفقر! بهذا الحرمان. وعلى أعتاب الغرفة تتدفق المجارى وتقتحم الغرفة بروائح خبيثة. وحين يقضون حاجاتهم يقفون فى طابور الانتظار أمام دورة مياه مشتركة تستخدمها عشرات العائلات.
أوشكتُ أن أصرخ وأنا الجماد! كثير من الحيوانات تحيا أفضل من هذا. ملعونة هذه الدنيا التى تُمتهن فيها كرامة الإنسان. كنتُ قد أصبحتُ الآن خرقة بالية. لم أعد أطمح فى المستقبل! وصارت ذكرياتى القديمة تعذبنى! وصرتُ أتمنى الموت، حتى أتجنب رؤية مشاهد الشقاء حولى.
وكانت شريكتى فى الشقاء، عروس الكراكيب، تجلس فوقى ساهمة الطرف، عاجزة عن فهم ألغاز الحياة، وكنتُ أعرف أنها جائعة.