أن تكون سجاداً فهذا معناه أنك ستتعامل طيلة الوقت مع الأقدام! أنا أحب الأقدام وأعرف لغتها، خصوصا حينما تكون عارية. هناك أقدام واثقة، وهناك أقدام مترددة. وهناك أقدام تمشى على الأرض هوناً. وتعرف أنها من الأرض إلى الأرض.
كانت أقدام سيدتى رقيقة، اعتادت أن تسير فوقى حافية. وكنت أغضب بشدة من هؤلاء الضيوف الذين يطأونى بأحذية متسخة. وكنت ألمح فى عينى سيدتى الاستياء، لكن أدبها الجم يمنعها من أن تطلب منهم خلع الحذاء. لكن بمجرد رحيلهم تعكف تنظفنى بأناملها الرقيقة، وهى تتنهد.
هل كانت سيدتى تعلم بحبى لها؟ لا أعلم. ولكن المؤكد أن العلاقة بين الجماد والبشر مفعمة بالمشاعر والمحبة. تذكر انزعاجك حين لا تجد كوبك المفضل، أو مقعدك المختار. أو وسادتك التى اعتدت على أن تريح رأسك عليها. الحياة حية بمعنى الكلمة، وخلف ذلك العالم المادى المُقيد بحواس البشر توجد عوالم رحبة سخية بالحياة.
عاماً بعد عام، بدأت أقدام صغيرة تحبو فوقى. فعرفت أن سيدتى أنجبت. كنت أتلقاهم برفق إذا تعثروا لعلمى أن سيدتى ستنزعج كثيرا إذا ارتفع صوتهم بالبكاء.
تالله ما أحلى الحب. كان بيتا هانئا من بيوت الطبقة الوسطى، عمود الحياة الاجتماعية المصرية: زوج يكدح ويرعى أسرته، وزوجة مخلصة محبة، وأطفال يكبرون على عناية الوالدين.
ومرت السنون دون أن أشعر بها. وقد بدأ الزمان يترك آثاره التى لا مفر منها. ألوانى- وإن ظلت زاهية- فقد أصابها طيف من انطفاء. بعض خيوطى تهدلت، خصوصا حينما بلغ الأطفال الصغار سن الشيطنة، وشرعوا يمدون يد العبث والتخريب. أواه كم من محبرة سكبوا على بشرتى الرقيقة حبرها الثقيل. وكم نالتهم علقة محترمة من والدتهم قبل أن تنكفئ كالعادة تغسلنى بصبر وتطلق التنهيد.
أيام كانت على صعوبتها جميلة. كبرت سيدتى وكبر الأطفال وكبرت أنا. ما عدت أمت بصلة لأصلى القديم. وفى يوم مشؤوم لستُ أنساه أبدا، فوجئت بغريمة لى تدخل محمولة من باب البيت. فى عيد زواجهما أراد زوجها إدخال السرور على قلبها بسجادة جديدة، جاءت محمولة على الأعناق كما دخلت أنا منذ عهد بعيد. وفوجئت به يطوينى فى هدوء، كأننى شىء قديم. ثم ينادى على البواب ليمنحه إياى، أنا الذى عشتُ عمرا فى هذا البيت حتى ظننتُ أننى من أهل البيت.
وبينما كنت أهبط فى الدرج يحملنى البواب كنت أسمع صيحات الإعجاب على السجادة الجديدة! فعرفت أن صيحات الانبهار تتداولها الأفواه، ولكن ما أكثر من سمعوها!. وعرفت أن الزمان ينتصر شئنا هذا أم أبينا! وعرفت أننا نستطيع أن نحب، ولكننا لا نستطيع أن نضمن قربنا ممن أحببنا. وعرفت أن البشر سيُحملون يوما خارج بيوتهم التى أحبوها مثلما تُحمل السجاجيد. لم يستغرق مكوثى عند البواب ساعات، إذ اشترانى شاب من سكان العمارة افتتح لتوه مكتب محاماة.
(غدا إن شاء الله نرافق السجادة فى رحلتها المثيرة للشجون).