تختلف درجة الاستقطاب التى تعقب هذا القرار أو ذاك من قرارات الرئيس، لكنها تشترك كلها فى قدرتها على إثارة الدهشة، وتطرح سؤالاً واحداً: كيف عاشت جماعة الإخوان المسلمين، وكيف توسعت وصارت تنظيماً عالمياً فوق الأوطان بهذا المستوى من الوعى السياسى، وهذه الدرجة المتواضعة من المعرفة بأبسط أصول المواءمة السياسية، وكيف تحيا هكذا بلا ذاكرة، تساعدها فى الاتعاظ من تجاربها السابقة فى المغالبة؟!
خلطة القرارات الأخيرة تبدو بمقاصدها ومنطوقها ونتائجها حالة قصوى من حالات إثارة الاستعجاب، سواء من حيث الوعى بالواقع أو من حيث تداخل أهدافها بين القاعدة الدستورية والقرار الإدارى، أو من حيث رداءة الصياغة التى تعكس إحساساً بالخطف تملّك من نفثوا هذا اللهيب من فم الرئيس.
أولا: من حيث المقاصد المعلنة: هناك محاكمة مسؤولين عن قتل الثوار، وتحصين لقرارات الرئيس وتحصين لمجلس الشورى ولجنة إعداد الدستور، وإذا صدقنا بإمكانية الحصول على نتائج مختلفة للمحاكمات تريح دماء الشهداء، وإذا صدقنا وجود مصلحة لمصر فى تحصين قرارات الرئيس لإعطائه قوة تنفيذ، فما المصلحة من تحصين مجلس الشورى، وهو مجلس دون جدوى وجوده بالأساس غير مؤكد إن كان سليماً، بينما المجلس الحالى غير شرعى قانونياً لانتخابه طبقاً للنظام المخلّ بالفرص، الذى أوجب حل مجلس الشعب، وغير شرعى سياسياً لأن نسبة التصويت فى انتخاباته كانت مضحكة، وأخيراً فإنه بلا عمل مثله مثل مستشارى الرئيس، مادام أن الرئيس محصن وبيده كل الصلاحيات. الأمر نفسه يمكن أن يقال عن لجنة الدستور التى صارت طيفاً واحداً، ما مصلحة مصر فى تحصينها؟
هذا التناقض يعكس عدم وعى بطبيعة الثورة التى هى فى جوهرها ثورة الفرد فى مواجهة العصابة، أى عصابة، وهؤلاء «الأفراد» لا يسوقهم أحد ويمكنهم فهم القرارات وسيواصلون الاحتجاج دون زعماء أو بزعماء ليسوا بالضرورة فى المقدمة. ولم يقدم الإخوان أى جديد على صعيد العدالة الاجتماعية يبرر الاستحواذ السياسى تحت أى مسمى.
ثانياً: من حيث المنطوق والصياغة، فهى تجمع القاعدة التى يصح أن يقال عنها «إعلان دستورى»، ومن بين المواد الست لا ينطبق هذا المفهوم إلا على ما يتعلق بتحصين قرارات الرئيس، أما تحصين مجلس الشورى ولجنة الدستور فيدخل فى باب القرار الاستباقى المعطل لعمل القضاء، وأما إعادة محاكمة المتهمين فى قتل المتظاهرين فتدخل فى باب القرارات الشرعية الثورية، ولا يمكن لهذا الخليط العجيب أن يحمل اسماً واحداً. وتكشف الصياغة الرديئة لغوياً عن استعجال مفعم بروح الخطف، وفى الوقت ذاته يعكس عدم ثقة القائل فى قوله. جاءت إعادة المحاكمات فى الصدارة «مادة أولى» كبوابة للدخول من مطلب ثورى إلى الأهداف الأخرى، لكن نية عدم الوفاء متوفرة بها، تقول المادة: تعاد التحقيقات والمحاكمات فى جرائم قتل والشروع فى قتل المتظاهرين... إلى آخره.
ولم تحدد المادة الجهة التى ستعيد التحقيقات: هل هى القضاء العادى؟ وما الذى يضمن اختلاف النتائج إذا أصرت الداخلية على حجب الأدلة؟ هل ستقام محكمة ثورة؟ فى هذه الحالة لابد أن نسأل: إذا كان مجلس الشعب تحت قيادة الإخوان قد استنكر مظاهرات محمد محمود، وأنكر دماء شهدائها، بدعوى انتهاء شرعية الثورة وبدء شرعية الدولة، فكيف يقنعنا بعودة شرعية الثورة هكذا فجأة؟ لكن شرعية الثورة فى الحقيقة لم تعد، بدليل أن المادة تحصر الاتهامات فى مجرمى فترة «مبارك» وتتجاهل جرائم الفترة الانتقالية.
فى المادة الثانية تحصين قرارات الرئيس حتى نفاذ الدستور وانتخاب مجلس الشعب، علماً بأن انتخاب المجلس يحتاج مدة أقلها شهران بعد نفاذ الدستور، فأى التاريخين سيعتمد؟ وبتشوش مماثل جاءت المادة الثالثة الخاصة بتعيين النائب العام: سيختاره الرئيس، ويعين لمدة أربع سنوات على ألا يقل عمره عن أربعين عاماً، وتنتهى المادة هكذا: «ويسرى هذا النص على من يشغل المنصب الحالى بأثر فورى» ما الذى يسرى؟ وما داعى الجملة أصلاً إذا كانت قرارات الرئيس محصنة، وإذا كان سيتبع الإعلان الدستورى بقرار تغيير النائب العام؟!
وأخيراً.. فإن النتيجة الواضحة الآن هى الاستقطاب الحاد ليس فى الشارع فقط، بل فى النقابات، بما يزعزع ركناً مهماً من أركان الدولة المصرية، ولندع مصلحة البلاد جانباً، ولتتذكر الجماعة جهودها السابقة فى الاستحواذ على حزب الأحرار فالوفد فالعمل، والأحزاب الثلاثة لم تسلم من التجربة حتى الآن، لكن الصحيح أيضاً أن الجماعة كانت تخرج مطرودة فى كل مرة.