بين اليمين واليسار، بين ضامن الجنة والمتفقد مقعده فى النار، وبين من يهتف مدنية ومن يصرخ إسلامية إسلامية، ثمة طرف ثالث لا يقتل، بل يتكلم، ويمكن أن نرمز إليه بـ«المواطن فلان».
من حيث الرأى والفاعلية السياسية كان من الممكن أن نسبغ على المواطن فلان بكل اطمئنان وراحة ضمير لقب «لا أحد» لكنه ليس كذلك فى الحقيقة، إذ يسوقه المواطن الشاطر الذى يتمكن من الوصول إليه أولا، ويملى عليه ما يجب أن يفعله ببطاقة الاستفتاء أو الانتخاب، وهكذا يصبح هذا «لا» - «لا أحد» رقمًا محسوبًا لتيار ضد تيار آخر، وبعد ذلك يتقدم خطوة بمبادرة من الفضائيات التى تقدمه كصاحب رأى.
قبل الفضائيات كان المواطن «لا أحد» يعيش فى بيئته الطبيعية، تقابله عند الحلاق أو فى الأتوبيس أو أثناء زيارة مجاملة لمريض أو فى حفل زفاف، يدلى بمداخلته السياسية وتتحملها مراعاة لظروف المكان ويمضى كل منكما إلى حال سبيله من دون أضرار تذكر. لكن المشكلة الحقيقية فى اعتلائه دكة الفتوى بالفضائيات فيشوش قومًا آخرين بجهالة.
بعض الفضائيات المتشككة فى قدرة «المواطن فلان» على الحكم السليم تقصر مشاركته على الفواصل التليفونية وغالبًا ما يكون تدخله على هيئة سؤال، وهناك فضائيات أخرى خصصت برامج بكاملها لتلقى اتصالات المواطن فلان، وبعضها قصر مشاركته على الرسائل النصية القصيرة المربحة للقناة «زيارة وتجارة» كما يقولون.
فى كل الأحوال فإن الفضائيات تستقبل «المواطن فلان» بتعال غير معلن، هو بالنسبة لها عينة من الشعب، من النوع الذى يُشار إليه بـ«المواطن العادى - المواطن البسيط» ولذلك لا تهتم بتعريفه باسم ثنائى أو ثلاثى مثل مفكرى التليفزيون بل باسمه المفرد مشفوعًا بمدينته أو محافظته: «معانا محمد من الشرقية» وهو تعريف لا يدل على شىء، وبما أننا لا نرى السحنة التى يمكن أن تكشف عن محددات أخرى للشخصية، فليس أمام المشاهد إلا الاحتكام إلى ما يقوله محمد من الشرقية أو ما تقوله سميحة من المنصورة.
وعلى التنوع بين المناطق التى تأتى منها المكالمات، لا نستطيع أن نلمح إلا التكرار فى تشابه ملامح المواطن فلان والمواطنة فلانة.
بعض الـ«فلان» مجندون، وهؤلاء يعملون بمبدأ التشويه بالتجني، وغالبًا بإلصاق سلوك من جندوهم بالمعارضين، مثل:
- خلاص السفارة الأمريكية اتفقت مع صباحى وهيعمل اللازم.
نازل الميدان، أمريكى أنا.
مثل هذه الاتهامات تعطى ضوءًا على وظيفة المواطن فلان المنضوى تحت لواء الأمن الإلكترونى، وهذه المعرفة لا تفيد فى تحديد شخصه، بل جماعته.
وبخلاف هذا الوضوح الرهيب هناك عينات أخرى من الآراء التى تجمع بين سمات فلان المجند وسمات فلان المستقل الذى تعب من الجدل ويريد أن يعود لنومه مجددًا، ولا تخرج تدخلاته عن العناوين التالية: - العلمانيين مش عاجبهم مرسى، عايزين مبارك تانى؟
- أعانك الله يا دكتور مرسى، التركة تقيلة.
- إذا غضب الله على قوم رزقهم الجدل ومنعهم العمل.
- فين أيامك يا مبارك؟
- صبروا على مبارك٣٠ سنة وبيحاسبوا مرسى على 100 يوم!
- يطالبون بالحقوق، الواجبات أولاً.
يلقى المواطن فلان بحمولته ويمضى، راضيًا عن مشاركته السياسية القيمة بينما تمضى الفضائية راضية عن موضوعيتها التى سمحت للمواطن البسيط بأن يقول رأيه، وليس هناك من يقول للمواطن فلان إنك كنت عبئًا على من ثاروا بعجزك، والآن أنت عبء عليهم بكلامك الفارغ، لأن الذين أطاحوا بمبارك فى ثورة لا يمكن أن يطلبوا عودته، لا بد أنهم يطلبون شيئًا أفضل مما حصلوا عليه يا فلان. والذين صبروا على مبارك ليسوا ملزمين بانتظار نفس المدة، لأن المائة يوم كانت كافية للتأكد من استمرار سياسات مبارك، فالعمال معتصمون بميناء العين السخنة لأن شركة موانى دبى تتحكم فيهم وهم فى بلادهم والأطباء مضربون لأن مرتباتهم لا تكفى لتوصيلهم فى ميكروباص ليقدموا واجباتهم أولاً يا أيها المواطن فلان!
على أن الاختلاف فى درجة العنف وعدم المنطقية بين كلام فلان المجند وفلان الذى لم يصبه الدور، لا ينفى وجوه التشابه بينهما، فكلاهما يفكر داخل صندوق ضيق صنعته الديكتاتورية وأغلقته على المواطن فلان، ثم ألقت بالمفتاح فى مقلب زبالة.
وبسبب سنوات التعليم والإعلام الفاسد وبطاقة التموين، أصبح من السهل اتهام كل صاحب رأى مخالف بالعمالة، وضاقت الخيارات كضيق بطاقة التموين، فأصبح بديل الزيت الفاسد شايًا من نشارة الخشب وصبغة الأحذية.