شغلنا الرئيس والقضاة بمعركة لا بعير لنا فيها ولا عقال.
من المفترض نظرياً أن هيبة الرئيس تعنينا جميعاً، إذا كانت معاركه من أجلنا، ومن المفترض أن نموت دفاعاً عن حصانة القاضى إذا كانت حصانته تعود علينا بما يصون كرامة حياتنا وموتنا. ولكن عندما تكون المغالبة بين السلطات هى الهدف؛ فالأمر لا يعنى أحداً.
وعلى الرغم من الضجيج الذى صاحب معركة خلع وتثبيت النائب العام؛ فقد بدت المعركة كأنها مباراة بين منتخبين تجرى فى دولة ثالثة بين جمهور غريب.
توقع الرئيس أن يكون قراره بتعيين النائب العام سفيراً فى الفاتيكان مباراة سهلة يكسب بها نقاطاً قبل مباراة جمعة الحساب فى التحرير، التى تأتى بعد خطاب الإنجازات غير المقنع، وحكم براءة المتهمين فى قضية موقعة الجمل الذى أطلق رائحة الشياط من قلوب وعقول الملايين.
لكن احتشاد القضاة ضد قرار إحالة أوراق النائب العام إلى البابا أوقع المفاجأة فى صفوف الرئاسة. وجرى ما نعرفه من تثبيت للنائب العام فى منصبه، أى إلغاء القرار الرئاسى، ولم تسفر محاولات إنقاذ ماء الوجه إلا عن مزيد من التخبط، ومزيد من تدهور الهيبة.
ياسر على، المتحدث باسم الرئاسة، قال إن القضاة تقدموا بالتماس إلى الرئيس لإبقاء النائب العام فى منصبه، ولنا أن نسأل: كيف يستغرق تقديم الالتماس ثلاث ساعات؟
على أى حال، لم يترك القضاة مقولة الالتماس تستقر، فقد كنا لديهم إذ يحتفلون على الهواء مباشرة من دار القضاء العالى يوم السبت، وكانت الكلمات كلها تؤكد إحراز النصر، ومن غير المعقول أن يحتفل جيش بنصر حققه بموجب التماس تقدم به إلى الخصم!
المستشار محمود مكى، نائب الرئيس، تناقض ليس مع القضاة فحسب، بل مع متحدث الرئاسة نفسه عندما ذهب إلى القول بإساءة المستشار حسام الغريانى نقل رسالة الرئيس إلى النائب العام، وإساءة الإعلام نقل الخبر؛ فالقرار لم يكن إقالة، بل تعيين النائب سفيراً تكريماً له!
فشل القرار المتسرع والتبرير العليل لا يعنى إلا أحد احتمالين: أن الفريق الرئاسى غير كفء أو أن ذلك الفريق غير موجود إلا صورة، بينما الرئيس يتصرف بمفرده أو بمشورة من فريق آخر.
وأياً كان حجم النجاح الذى أحرزه طرفا مباراة إنقاذ ماء الوجه، فالمواجهة لم تكن ضرورية إلا بسبب هزيمتهما معاً فى معركة القصاص لدم الشهداء.
قضية مبارك وبعدها قضية موقعة الجمل وبينهما براءات الضباط الصغار، كلها أحكام مستفزة فى نتائجها وإن كانت سليمة إجرائياً من حيث تناسب الحكم مع المستندات والأدلة المطروحة أمام المحاكم، لكن العدالة معصوبة العينين وليست معصوبة العقل. وهناك شهداء سقطوا ينبغى القصاص ممن قتلوهم، وإذا كان المتهمون فى كل هذه القضايا أبرياء، فمن الذى يأمر باستئناف البحث لتقديم الجناة؟
النقطة الأخيرة التى وضعتها يد قاض فى كل هذه الأحكام، كان يجب أن تتزحزح قليلاً وتتيح المساحة لجملة جديدة تتهم أحداً ما أو جهازاً ما بالتقصير فى جمع الأدلة، وعندما يقف المتلاعب مكان القاتل يمكن أن يعود إلى رشده ونتوصل للقتلة أو يعاقب هو بتهمة إتلاف المستندات.
ولو بادر عبدالمجيد محمود بالخطوة الجديدة لفهم الناس لماذا يجب أن يكون منصبه محصناً. ولو بادر الرئيس إلى بحث كيفية تحقيق العدالة ووجد أن النائب العام يقف عقبة فى سبيل تحقيقها لوجد الشعب بجانبه فى قرار إحالة أوراقه إلى البابا.
ولأن كل هذا لم يحدث؛ فلا يمكن للشعب أن يفهم لماذا يتمسك القضاة بحصانتهم، ولن نعرف لماذا يتهاوش الرئيس معهم. ولذلك فإن الغضب باق ما بقى دم الشهداء بلا قصاص، وما بقى الإصلاح مدهوساً تحت سنابك خيل تكر وتفر فى معارك التمكين.