لا شك أن الأفكار الدينية المغلوطة تعد من أهم الأخطار التى نواجهها على المستويين المحلى والدولى، وذلك أنَّ التطرف الدينى فى العادة لا يقف عند حد الفكر المتشدد المنطوى على نفسه القابع فى زاويته، بل سرعان ما يتطور إلى مرحلة فرض الرأى، ثم محاولة تطويع المجتمع بأسره قسرًا لهذا الفكر، ولا سبيل له إلا العنف والإرهاب وسفك الدماء، فالتطرفُ يبدأ بفكرة منحرفة كالحاكمية أو جاهلية المجتمع أو وجوب هدم الأنظمة القائمة وإقامة الخلافة المزعومة، وينتهى بالصدام والقتل والتفجير وتقسيم الدول وتهجير الشعوب، وهذه المتوالية التى نطلق عليها الإسلام السياسى تتشابه وتتكرر، بل وتزداد ضراوة وتأثيرًا وعنفًا بشكل متزايد.
ولم يعد المتطرف كما كان سابقا يطمح إلى حرق نادى الفيديو أو تحطيم الملهى الليلى أو هدم الضريح كما كان يحدث فى السبعينيات وما بعدها، بل لم يعد يقف عند حد اغتيال مواطن عادى أو مسؤول كبير، كل هذه الأمور وإن كانت تحدث إلا أنها تمثل مجرد خطوات أولية بسيطة فيما يحلم به هؤلاء المتشددون، توسعت طموحات الإرهابيين إلى حد تلقى تمويلات وإقامة جيوش وتسليح كتائب وتدريب الأفراد وإعاشتهم ودمجهم فى كيانات منظمة تشبه إلى حد كبير الجيوش النظامية، أو على أقل تقدير المليشيات المنظمة، هذا مع استعمالهم لكافة وسائل التكنولوجيا الحديثة من تصوير وعرض وغزو وسائل التواصل الاجتماعى لبث فكرهم المتطرف وجذب المزيد من الشباب المتحمس لدفعهم إلى أتون الحروب والعمليات الانتحارية، لذلك من المفيد أن نعترف بأن التطرف والإرهاب تحول من ظاهرة فردية عشوائية إلى ظاهرة جماعية منظمة تدخل فى تحالفات دولية لا تراعى البعد الأخلاقى ولا الإنسانى فضلا عن الدينى.
وعلى صعيد المواجهة الفكرية، وهو الأهم، يجب على المؤسسات العلمية والفكرية أن تخوض مرحلة المواجهة الجادة المؤسسة على رؤية عميقة ودراسات دقيقة بطريقة علمية حديثة، وردود منهجية تتجاوز مرحلة الشجب والخطابة إلى مرحلة الرصد والتحليل ومتابعة تطور هذه الأفكار المتشددة من جذورها التاريخية والاجتماعية حتى وصلت إلى هذا الحدِّ من الشراسة والعنف، ومن ثم فإن المواجهة الفكرية الجادة- على حد تعبير فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسى فى مؤتمر الشباب- سوف تقضى على ظاهرة التطرف والإرهاب من جذورها، وسوف تدعم جهود الاستقرار الأمنى والسياسى والاقتصادى فى كافة دول المنطقة، وسوف توفر علينا كثيرًا من الخسائر فى الدماء والأرواح التى تزهق فى المواجهات الأمنية أو فى العمليات الإرهابية.
إضافة إلى ما سوف تؤدى إليه من دفع عجلة التنمية والإصلاح الاقتصادى الذى يعود بالرخاء على الشعوب والأفراد، وفى هذا الإطار كانت الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم من أهم المؤسسات التى سارعت منذ بداية نشأتها- والتى واكبت تزايد وارتفاع وتيرة العنف فى المنطقة- إلى تلبية نداء الرئيس عبد الفتاح السيسى بضرورة تجديد الخطاب الدينى ومحاصرة هذه الظاهرة، وكانت سياسة الأمانة العامة تعتمد الأسلوب العلمى والمنهجى كوسيلة فاعلة فى هذه المواجهة الفكرية، ومن ضمن هذه الأساليب أسلوب الرصد والإحصاء العلمى الدقيق الذى يرصد الفتاوى التكفيرية والمتشددة وآثارها فى العالم كله من خلال متابعة ما يدور فى وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعى والمواقع الإلكترونية، وإطلاق المنصات الإلكترونية المتعددة للرد على شبهات هذه الجماعات بأساليب مختلفة، واعتمدت الأمانة مبدأ العمل المؤسسى الجماعى فانضوى تحت لوائها أكثر من ثمانين عضوا ومؤسسة عاملة فى مجال الإفتاء وعقدت مؤتمرها العالمى على مدار أربع سنوات، برعاية فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسى، وكان أحد وأهم هذه المؤتمرات بعنوان دور الفتوى فى استقرار المجتمعات، وكان لهذا المؤتمر العالمى نواتج هامة، كإطلاق العديد من المبادرات كتقنين الفتوى وإصدار ميثاق الفتوى العالمى ومبادرة تدريس الإفتاء كمادة مستقلة بمنهج مستقل.
وقامت الأمانة بإعداد نماذج كاملة لهذه المناهج، كما سعت الأمانة بخطة علمية منهجية إلى تفكيك مفاصل الفكر المتشدد من جذوره المرجعية، وتبلورت هذه الجهود عن إصدار موسوعة علمية بعنوان (دليل المسلمين إلى تفنيد أفكار المتطرفين)، وهى تعد أول موسوعة تتناول وبجرأة نقد أفكار التكفير التى اعتمدتها معظم هذه التنظيمات، وهى تتمحور فى مجملها حول الأفكار التكفيرية لسيد قطب، لقد أدركت الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم من موقع المسؤولية الدينية والوطنية أن خطر الإرهاب لا يقتصر ضرره على الصعيد المحلى، وإنما يمتد تأثيره السلبى على استقرار وأمن دول المنطقة بأسرها، وأن هذا الخطر ما هو إلا نتيجة طبيعية للإهمال والاستهانة لسنوات طويلة فى مقاومة هذا الفكر، ومن ثم فقد سعت الأمانة العامة إلى إعداد برامج تدريب للعلماء والمفتين والدعاة على مستوى العالم لكى تؤهل هذه الكوادر لمواجهة هذا الفكر على مستوى العالم.
أمين عام دور الإفتاء