«مواجهة الإرهاب ليست أمنية فقط».. هذا ليس كلامى ولكنه كلام الرئيس السيسى.. قاله فى اجتماعه الشهرى منذ عامين حين أشار إلى أن:
«مواجهة الإرهاب ليست مواجهة أمنية فقط، وإنما هى مواجهة شاملة تتضمن مواجهة الفقر والجهل، وخطابا دينيا متجددا، قادرا على أن يتعامل مع الأفكار المشوشة والمغلوطة، وأن الجهود التى تبذل لتجديد الخطاب الدينى غير كافية حتى الآن، وأن جهود مؤسسة الأزهر لتجفيف منابع الإرهاب غير كافية أيضًا، ونحتاج لأن نتحرك فى هذا الملف أكثر من ذلك وأسرع، ويجب أن يشارك فى هذا الملف المثقفون والمفكرون».. وكان الرئيس السيسى قد نبَّه إلى ذلك من قبل فى احتفال ليلة القدر.. وقال مخاطبا علماء الأزهر: «إنكم ستسألون يوم القيامة عن تقصيركم فى تجديد الخطاب الدينى».. بينما ما نحتاجه حقيقةً تجديد الخطاب الثقافى.
والتغيير بقدر ما يحتاج إلى إرادة سياسية يحتاج أيضا إلى استعداد ورغبة من جهاز الدولة الثقافى لإحداث هذا التغيير.. ولكن هناك مقاومة ملحوظة ضد التغيير.. تتمثل فى: (قلة الكفاءة- وغياب الشفافية- وعدم تطبيق مبدأ الثواب والعقاب- وضآلة الإمكانيات المادية).. وهى أسباب كفيلة بإعاقة العمل الثقافى.. لذلك لابد من فكر جديد يقود الثقافة المصرية.. بعيدا عن النمط التقليدى الذى اعتادت عليه الأجهزة الثقافية.. دون وضع استراتيجية شاملة للعمل الثقافى.. وهذا ليس تقليلا للجهود المبذولة.. ولكن مع احترامى لكل القيادات الثقافية.. إلا أنها تعمل فى غياب منظومة ثقافية تسعى لتحقيق أهداف قومية محددة.. تخدم خطط التنمية الشاملة والمستدامة.. وإذا كان المثقفون تقدموا الصفوف فى 30 يونيو لإسقاط جماعة الإخوان.. فلابد لنا من ثورة ثقافية قادرة على التخلص من النمط التقليدى للتعامل مع ملف الثقافة المصرية.. لوضع مشروع لثقافة المستقبل.. ويسهم فى وضع رؤاه وصياغته مجموعات مستنيرة من المثقفين والمفكرين المتخصصين فى شتى مجالات المعرفة من ذوى الكفاءات من مختلف الأجيال.. وهذا ما أشار إليه الرئيس فى كلمته حين قال: «... نحتاج لأن نتحرك فى هذا الملف أكثر من ذلك وأسرع، ويجب أن يشارك فى هذا الملف المثقفون والمفكرون».. ولكننى أستطيع أن أقول إن هناك إقصاء للمثقفين والمفكرين عن المشهد الثقافى.. على مستوى التخطيط والرؤى.. صحيح أنه يتم استدعاؤهم فى شتى الاحتفاليات لاستكمال مظاهر (الزينة) فى هذه المناسبة أو تلك الفعالية.. ولكن لا توجد إرادة ثقافية للمشاركة الحقيقية.. فموظفو جهاز الدولة الثقافى يحتكرون التفكير والتخطيط وإقامة الفعاليات والإشراف عليها.. وهذا بحكم وظائفهم.. فلديهم يقين بأن هذه الأجهزة ملك لهم.. وهم وحدهم يمتلكون الحقيقة المطلقة.
ومن الملاحظ أن كل وزراء الثقافة الذين جاءوا بعد 25 يناير 2011 بعد أن حلفوا اليمين، وفى أول مؤتمر صحفى أعلنوا جميعهم أن توجيهات السيد الرئيس لهم هى: «الاهتمام بالهيئة العامة لقصور الثقافة».. وهذه ليست مجرد صدفة.. إنه يعنى ما يقول.. فهيئة قصور الثقافة تمتلك حوالى 650 موقعا ثقافيا على امتداد الجمهورية.. وهى تمثل رئة الثقافة التى يجب أن يتنفس من خلالها المواطنون.. ولكن هناك تضخما غير معقول فى عدد العاملين الذى بلغ 35 ألف موظف وإدارى ومحرك ثقافى.. وأن نسبة الإداريين إلى المحركين الثقافيين (1: 7) أى أن كل كادر ثقافى يوجد فى مواجهته 7 إداريين لإعاقة العمل الثقافى.. ليس تعمدا أو نكاية فى المثقف.. ولكن اللوائح والقوانين البيروقراطية أعطتهم هذا الحق بامتياز.. إذن فمهمة أى وزير ثقافة ليست سهلة.. وهذا ما أعلنته على سبيل المثال الدكتور إيناس عبدالدايم بعد حلفها لليمين حيث أعلنت:
«إن الحمل ثقيل.. لكنى سأبذل أقصى جهدى للارتقاء بالثقافة المصرية فى فترة مفصلية من تاريخ مصر»، فوزارة الثقافة حظيت بأعلى نسبة تغييرات وزارية منذ 2011 حتى 2018، إذ تعاقب عليها تسعة وزراء منهم وزير تولى الوزارة مرتين (د. جابر عصفور).. ووزير آخر تولاها ثلاث مرات (د. صابر عرب) أى أن الوزارة حدث بها 11 تغييرا وزاريا فى سبع سنوات فقط.. أى بمعدل وزير كل سبعة أشهر ونصف.. وهذا فى حد ذاته أمر خطير للغاية.. فكل وزير يأتى لا نعلم لماذا أتى!! ولماذا ذهب!!.. وكأنهم وزراء تسيير أعمال.. فوزير الثقافة هو الوزير الوحيد الذى يعمل على الهواء مباشرة.. وكل المثقفين والإعلاميين والجمهور يجلسون فى استوديو التحليل لتقييم أعماله.. أو بمعنى أدق لانتقاد أعماله!! فهو وزير (أون لاين).. لأن الجمهور المستهدف لدى كل وزراء الثقافة، فضلا عن المواطن العادى، هم كل المثقفين والفنانين والمبدعين والكتاب والأدباء والإعلاميين.. وكل هؤلاء لديهم قنوات اتصال مفتوحة مع وسائل الإعلام.. أما المشكلة الكبرى التى تواجه العمل الثقافى فى مصر فهى ضآلة ميزانية الوزارة.. فوزارة الثقافة وزارة خدمية ليست لها موارد.. فإذا كانت الثقافة تقع فى خط الدفاع الأول لمواجهة الأفكار المتطرفة.. فإن الوظيفة الأساسية للفن والثقافة والإبداع هى تفكيك بنية الفكر الإرهابى.. حتى يمكننا تجفيف منابع هذا الفكر المتطرف المنتشر فى القرى والنجوع.. والجهاز المنوط به هذه المهمة هو الهيئة العامة لقصور الثقافة التى لديها 650 موقعا ثقافيا على مستوى الجمهورية.. وهذه الهيئة تحتاج إلى ثورة شاملة لتؤدى مهمتها على الوجه الأكمل.. وفقا لاستراتيجية ثقافية شاملة.. ولكن لو ألقينا نظرة سريعة على نصيب وزارة الثقافة فى الموازنة العامة للدولة.. فنحن حقيقة فى مأساة.
حيث بلغت ميزانية الثقافة خلال عامى 2014/2013 مليارا و439 مليونًا جنيه مصرى.. بواقع 0.23% من إجمالى الميزانية العامة للدولة.. وارتفعت ميزانية الوزارة فى العام المالى التالى 2014/2015 بشكل طفيف لتصل إلى نحو مليار و475 مليون جنيه.. والتى مثلت نسبة 0.24% من الميزانية العامة للدولة.. وهذه المبالغ الضئيلة يذهب 90% منها للأجور والرواتب.. وما يتبقى لممارسة الأنشطة وخدمة الجمهور ثقافيا بالكاد يتجاوز 10% من هذه المبالغ على مستوى الجمهورية.. أى أن نصيب الفرد الواحد من الخدمات الثقافية حوالى 11 قرشا فى العام كله.
أما نصيب الثقافة فى ميزانية عام 2019/2018 فهو رقم مثير للدهشة.. فمكونات البند الثامن فى الموازنة العامة يأتى تحت عنوان «الشباب والثقافة والشؤون الدينية».. ويندرج تحته:
«وزارة الشباب والرياضة بمديرياتها- وزارة الثقافة- البيت الفنى للمسرح والمركز القومى للسينما- والمجلس الأعلى للآثار- هيئة قصور الثقافة- الهيئة العامة للاستعلامات- مكتبة الإسكندرية- دار الكتب والوثائق- الهيئة الوطنية للصحافة- وزارة الأوقاف ومديرياتها- الأزهر الشريف».. وكل هذه الوزارات والمؤسسات نصيبها من الموازنة العامة 2% بالرواتب والأجور والإنشاءات والأنشطة.. و.. إلخ.. وهى أقل نسبة فى كافة الخدمات الأخرى.. على مستوى كافة أجهزة الدولة.. فكيف لنا أن نواجه الإرهاب.. ونجفف منابعه.. ونفكك بنية الفكر المتطرف فى القرى والنجوع.. بهذه الميزانية الضئيلة.. وللإجابة عن هذا السؤال فللحديث بقية.. إن كان فى العمر بقية.