x

محمد بغدادي «المنابر الأثرية».. كنوز فى «الزنزانة» محمد بغدادي الأحد 29-04-2018 01:18


فيما كان الجهاز القومى للتنسيق الحضارى.. وزارة الثقافة.. وزارة الآثار تحتفل بـ«اليوم العالمى للتراث».. ذلك اليوم الذى حدده المجلس الدولى للمبانى والمواقع الأثرية.. برعاية منظمة اليونسكو لصون وحماية التراث الإنسانى.. كانت هناك كتيبة من رجال وزارة الآثار (فنيون وموظفون من قطاع الآثار الإسلامية) يشرعون فى تنفيذ مهمة سرية!!، تنفيذاً لقرار مجلس الوزراء رقم 110 لسنة 2018، والمهمة التى كان يُفترض عدم الإعلان عنها (ولست أدرى لماذا!!).. عبارة عن تفكيك 55 منبراً واقتلاعها من أماكنها ونقلها إلى مخازن متحف الحضارة وعرضها فيما بعد.. وهذه المنابر تُعد تحفاً أثرية إسلامية فريدة من نوعها.. ويعود تاريخها إلى أكثر من سبعمائة عام.. حيث شرعت وزارة الآثار فى أعمال فك أحد أهم وأندر المنابر المملوكية.. وهو منبر مسجد أبوبكر بن مزهر، الذى كان ناظراً لديوان الإنشاء فى عهد دولة المماليك الجراكسة.. ويعود تاريخ بنائه إلى عام 1479م بحارة برجوان بحى الخرنفش بالجمالية.. وللأسف أُضيفت إلى مهام كتيبة اقتلاع المنابر مهام أخرى!!، وهى انتزاع ستين قطعة أخرى من المساجد التاريخية من المشكاوات وكراسى المقرئين والثريات الأثرية.. أما الهدف الذى أعلنه رجال الآثار فكان: «حماية هذه القطع النادرة من عمليات السرقة.. وإعادة عرضها فى أماكن أخرى».

والغريب فى الأمر أن أى خبير أثرى يعلم أن تفكيك هذه المنابر المُطعَّمة بالصدف، والمصنوعة من أخشاب مضى عليها أكثر من سبعمائة سنة، سيؤدى إلى تدميرها.. وأن إعادة تركيبها وتجميعها وإقامتها فى غير بيئتها الطبيعية ومساجدها الأصلية ستكون خطأ فنياً وأثرياً فادحاً.. فضلاً عن استحالة إعادتها إلى ما كانت عليه.. فهى أخشاب قديمة متهالكة وليست أحجاراً جرانيتية أو صخرية مثل معبد أبوسمبل.. ويجب أن يحاسب مَن أفتى بهذه الفتوى.. فقيمة المساجد الأثرية تتمثل فى مكوناتها وعناصرها التراثية.. وكيف لنا أن نستبدل منبراً أثرياً أُقيم وقت بناء المسجد منذ سبعمائة سنة.. لنضع بدلاً منه منبراً مقلداً.. إلا إذا كان هناك سوء نية.. فتلك كارثة!!، أو حسن نية.. وتلك كارثة أكبر!!، فالتأكيد على عدم الإعلان عن عملية تفكيك المنابر دون علم وزارة الأوقاف أمر غير مفهوم!!، وتنفيذه فى سرية أمر مريب!!، أما مسألة الحماية من السرقة فهو العذر الأقبح من الذنب.. وسرقة المنابر وأبواب المساجد والمشكاوات ليست مبرراً لكى نتعامل مع المنبر الأثرى والمشكاة والثريا على أنها عهدة ويجب وضعها فى المخازن وإغلاقها بباب مصفح (ست سَكّات).. فمكونات الأثر سواء كان مسجداً أو كنيسة أو معبداً.. هى التى تعلى من قيمة الأثر.. وتضعه فى مصاف المتحف الأثرى المفتوح الأعلى قيمة.. على اعتبار أنه من النادر أن يظل الأثر صامداً ومستخدماً لذات الغرض الذى أُنشئ من أجله مئات السنين حتى الآن.. وهذا سر خلوده وأسباب عظمته.

ومن المؤسف حقاً أنه على مدى خمسة عشر عاماً مضت تعرض حوالى 17 منبراً من منابر مساجد القاهرة التاريخية لسرقات فجة ما بين اختفاء أجزاء صغيرة أو سرقة أبواب وقطع كاملة.. وآخرها مشكاوات مسجد الرفاعى.. فبعد سرقة خمس مشكاوات.. تم اقتلاع كل المشكاوات الأصلية ووضعها بالمخازن!!، وعادة ما تُقيَّد الجريمة ضد مجهول.. ويتم تبادل الاتهامات بالإهمال.. بين وزارتى الآثار والأوقاف.. فـ«الآثار» قانوناً مسؤولة عن حماية هذه المساجد ومحتوياتها.. لأنها مُسجَّلة لديها كأثر.. و«الأوقاف» مسؤولة بحكم ملكيتها وإدارتها تلك المساجد.. وضاعت الحقيقة والمنابر والمشكاوات والمساجد.. بين مَن يملكها ومَن يحميها.. وللأسف الشديد أن هذه السرقات لم تحدث منذ مئات السنين.. وظلت هذه المساجد عامرة بذكر الله.. وبالكنوز النادرة التى تحتويها بداخلها.. وقبل أن تكون لدينا وزارة أوقاف.. أو وزارة آثار.. أو شرطة آثار وسياحة.. وكانت المساجد مفتوحة ليلاً ونهاراً فى ذات الأحياء الشعبية.. ولكن كانت للمساجد حرمتها.. وظلت هذه الكنوز الأثرية باقية.. وظلت المساجد صامدة لم يمسسها أفراد الطبقات الشعبية، الذين اتهمهم بعض رجال الآثار بأنهم وراء سرقة هذه المحتويات.. بل فرشوها بأفخر السجاد.. وأناروا قناديلها ومشكاواتها بالزيت بقروشهم القليلة.. وحافظوا عليها وتبرّكوا بأضرحتها، بل غالوا فى تقديسها.. ورغم ذلك ظلت ثروة مصر من مساجدها الأثرية كنوزاً موصَدة على مر السنين.

ومن هنا لابد لنا من وقفة مع الفساد الذى استشرى منذ سنوات.. فحوادث السرقة ليست وليدة اليوم.. فقد بدأت حين ظهر نهم وشراهة دوائر الاقتناء بشراسة.. نتيجة الوفرة المالية التى تنامت بشكل هائل خلال الحقبة النفطية.. حتى لافتات الشوارع لم تنْجُ من السرقة.. وكأنهم يتاجرون فى لحم الوطن.. تلك اللافتات التى كانت مغطاة بطبقة من «الجليز» المقاومة للخدش والصدأ، والتى صُنعت بعناية منذ بداية القرن العشرين فى عهد الخديو عباس حلمى الثانى.. وكتبها بخط الثلث الأصيل الأستاذ محمد جعفر الخطاط.. وشاركه فى كتابتها الأستاذ على بدوى.. وعُلقت فى الشوارع والميادين والحوارى والأزقة عام 1905 أو نحوها.. وفى فترة لاحقة كتب الخطاط عبدالسلام محمد باقى اللافتات بالخط الفارسى.. وشاهدت بعينى بعضها يُباع فى صالات المزادات فى أوروبا وبلاد الخليج العربى بعشرة آلاف دولار.. وتم اقتلاعها من الجدران.

وإذا كنا كدولة كبيرة بحجم مصر وتاريخها وعمق حضارتها عاجزين عن حماية مساجدنا وشوارعنا وكنوزنا الأثرية من السرقة، فيجب أن نعترف بأن هناك فساداً لا يجب السكوت عليه.

وإن كانت الوسيلة الوحيدة لحماية محتويات مساجدنا الأثرية هى تفكيكها ووضعها فى المخازن أو المتاحف بعيداً عن بيئتها الأثرية.. فنحن لدينا مشكلة حقيقية فى الأخلاق.. وفى تحملنا مسؤولية تأمينها.. وفى تعاطينا مع مشكلاتنا بشكل علمى.. وعلينا أن ندرس تجارب الدول الأخرى.. فمدن روما وفلورنسا وفينسيا وغيرها من المدن الأوروبية عبارة عن متحف مفتوح، فالتماثيل فى كل شارع وميدان وزقاق.. والكنائس والمبانى والمحال كلها تحف نادرة وفريدة.. وهى قائمة منذ مئات السنين.. كيف تتم حمايتها!!، وكيف تتم صيانتها.. وإحاطتها بالرعاية على مدى الأربع والعشرين ساعة.. علينا أن نعلم.. إنها ليست معجزة!!.

ولكن التعامل مع الأثر على أنه عهدة.. هنا يجب إعادة وزارة الآثار إلى وزارة الثقافة.. فالآثار مكون رئيسى من مكونات هويتنا الثقافية.. وعلماء الآثار قيمة علمية نحترمها ونجلها ونعترف بفضلها فى الاكتشافات والبحث والتنقيب.. أما إدارة الأثر نفسه وتسويقه وطريقة عرضه وحمايته.. فهذه مهمة وزارة الثقافة.. بعيداً عن التفكير النمطى للموظف البيروقراطى، الذى يرى أن الأثر مجرد عهدة دفترية، علينا اقتلاعه.. ووضعه فى المخازن لحمايته!!.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية