بحق أحلام طفولتنا، وبحق ليالي صبانا، وبحق العشرة الطويلة بيننا، وبحق تلك العلاقة المميزة منذ ولادتنا حين جعلناها أحد أفراد عائلتنا الغائب الحاضر باستمرار، صوتها يهز سريرنا لننام، ويقبلنا في الصباح لنصحو ونتفاءل ويمشي معنا إلى المدرسة والجامعة ثم العمل.. بحق كل هذا الحب والود، اسمحوا لنا أن نقول رأينا في «فيروزنا».
اسمحوا لنا أن نخاف عليها من أي «سقطة» فنية، وهي التي لم تعرف خلال سنينها الـ 82 سوى النجاح. جوهرتنا بقيت عالية، شامخة، لم يستطع أحد أن ينزلها من عليائها، ولن يهتز عرشها اليوم، حتى ولو فشل ألبومها الجديد في الوصول إلى قلوب الناس.
«ببالي»، ألبوم إلكتروني الصدور، يحمل توقيع ابنتها ريما الرحباني، لم نجد فيه فيروز التي في بالنا. عمل جاء «اقتباساً» لأغنيات أجنبية قامت بترجمتها ريما إلى العربية.
هل تشعر أنك أحببته؟ هل رأيت فيه فيروزك؟ كثير الكلام الذي يمكن أن يقال حول هذه التجربة التي تعتبر غريبة، والتي لولا صوت فيروز لما اقتربنا منها أو سمعناها. صوت فيروز وإطلالتها، ما زالا يملكان نفس مفعول السحر، يأسرانك، خصوصاً أن الصوت يحتفظ بخامته وجماله وقوته.
فيروز هي المعادلة الصعبة، سلسة وصعبة في آن. تلك التي عرفناها في زمن الأخوين رحباني، لم تكن كلاسيكية في أغانيها، كما لم تكن «مودرن»، سلكت طريقاً خاصاً بها وحدها وأرضت كل الأذواق. هي ليست أم كلثوم ولا صباح، غنت سيد درويش وعبدالوهاب، كما غنت «يلا تنام ريما» و«تك تك تك يا أم سليمان».. وفي كل الألوان كانت فيروز المميزة التي لا تشبه إلا نفسها، والقريبة من كل الأذواق والقلوب.
مع ابنها زياد الرحباني حلّقت في عالم الجاز واللون الشبابي فأعطت للكلمة والألحان قيمة أكبر. كان مجرد تغيير في اللون، استغربه الناس قليلاً، لكنهم لم يستهجنوه كما حصل الآن مع صدور ألبومها الجديد «ببالي»، والذي كان من المفترض أن نعتبره مميزاً، فهو الرقم 99 في مسيرتها، والجمهور يشتاق إليها وينتظرها. لكنه حمل ما لم يخطر «ببالنا»، إذ لم يتوقع أحد أن يتم التعامل مع فيروز اليوم، وكأنها مغنية مبتدئة، يقدمون لها أغان لفنانين غربيين معروفين، لتعيد غنائها بأسلوبها. لماذا؟
هل نقبل أن نسمع فيروز تغني لمن هم في نظرنا أقل منها رونقاً؟ هل نقبل عليها أن تنزل إلى مستوى الكلام الفارغ من أي معنى أو قيمة، لتقول «لا شيء»؟ عشر أغنيات مقتبسة لفنانين من فرنسا وأمريكا وإسبانيا، غناها كثيرون في الماضي ومن مختلف الجنسيات.. فليفعلوا، لكن فيروز لا. لا يليق بها أن تغني مثلاً «بيساميه موتشو» الإسبانية المستهلكة منذ صدورها عام 1940.
نعم هي قدمت مع عاصي الرحباني أغنيات من الفلكلور العالمي، جاءت كلماتها عربية رشيقة ثرية، منها «كانوا يا حبيبي» و«لبيروت» وغيرهما.. أما ما نسمعه اليوم «ببالي»، فلا العمر يسمح لها بتقليد الآخرين، ولا نحن نقبل بأن تنزل من عليائها لما دون النجوم.
خلافات بين الأخوين رحباني (ريما وزياد) دفعت ثمنها فيروز فنياً؟ ربما، وربما صار عالم التأليف الغنائي أصغر مما تستحقه هذه الكبيرة! أياً يكن، اسمحوا لنا أن نحتفظ بفيروزنا وبأحلامنا معها.