فى السبعينيات لم تكن مصر تغنى سوى لملحن واحد، امتلك الأسماع والوجدان، بحساب الأرقام قالت الأوراق الرسمية وعلى مدى تجاوز أربعين عاما إنه الأول، فهو أكثر ملحن تحقق أغانيه أداءً علنيا، والذى يعنى أنه لايزال يحتل مكانة (الألفة) بين كل الملحنين، فهو واحد من أروع من رشقت أنغامهم فى قلوبنا، منذ نهاية الخمسينيات فى القرن الماضى حتى الآن، وكأنها نسيم الروح.
أتحدث عن الموسيقار بليغ حمدى الذى حلت ذكرى رحيله الرابعة والعشرون أمس، بينما لاتزال أنغامه تؤكد أنه حى يرزق.
يقولون «عدوك ابن كارك» ربما لديكم أكثر من واقعة تدلل على ذلك، ولكن ما رأيكم أن هناك وجها آخر لتلك الجملة، وهى أن أصدق من يعرف قدر الفنان هو أيضا (ابن كاره)، وإليكم الموسيقار كمال الطويل عندما طلبت شهادته قال لى: «إننا كموسيقيين كنا كثيراً ما نتوقف مشدوهين أمام ما يبدعه، نسأل كيف فكر فى هذه الجملة اللحنية، كيف جاءه هذا الخاطر المجنون؟ بليغ لديه دائما ومضاته الخاصة جدا التى تثير دهشتنا»، الشاعر مأمون الشناوى قال لى: «كل من لحن لأم كلثوم بعد العمالقة القصبجى وزكريا والسنباطى لم يفعلوا أكثر من أنهم أعادوا فقط ترتيب قصر أم كلثوم، أما بليغ فلقد قام ببناء قصر جديد لصوتها».
بليغ لم يكن مجرد مبدع استثنائى ولكن فى شخصيته سر وسحر خاص، ولهذا صارت حياته ملهمة لأكثر من عمل سينمائى وقُدم عنه حتى الآن ثلاثة أفلام تسجيلية ويتم إعداد مسلسل «مداح القمر»، كما سبق أن استوحى المخرج السورى عبداللطيف عبدالحميد حياة بليغ بعد رحيله بعام واحد فى فيلم «نسيم الروح».
لقاؤه المبكر مع أم كلثوم اختصر سنوات فى مشواره، قفزت باسمه خطوات للمقدمة، قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره كانت أم كلثوم تُغنى من ألحانه «حُب إيه اللى أنت جاى تقول عليه»، وكما ترى فإن أم كلثوم التى كانت تردد كلمات رامى «عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك» هى نفسها تتمرد على كل هذا الخضوع وتغنى بكلمات عبدالوهاب محمد وبكل تحد «إنت عارف قبله معنى الحب إيه لما تتكلم عليه»، ومن بعدها لا يخلو كل موسم غنائى لـ«ثومة» من لحن لبليغ، الحصيلة إحدى عشرة أغنية، احتلت ست منها مكانة الصدارة فى التداول بين كل أغنيات أم كلثوم، وهى (بعيد عنك) و(سيرة الحب) و(ألف ليلة وليلة) و(فات الميعاد) و(الحب كله) و(أنساك)، أغضب مرة أم كلثوم عندما لم يأت أثناء بروفة أغنية «بعيد عنك»، وقررت أمام فرقتها الموسيقية أنها لن تتعاون معه مجددا، ورغم ذلك سرعان ما سامحته وكانت تدعوه لفيلتها وهى تداعبه «تعالى يا واد وهات العود معاك».
الواقعة التى هزمت بليغ هى انتحار المغربية الحسناء سميرة مليان وهى عارية من شرفة منزله بالدور الثالث، أسهبت الصحافة فى تناول تلك القضية بل تحولت إلى فيلم سينمائى «موت سميرة»، وأدين وقتها بالسجن لمدة عام، واضطر للهروب خارج مصر عام 1986، ثم برأته محكمة النقض فى عام 89، واستقبله فى المطار كل رموز ونجوم مصر، عاد جسداً فقط بعد أن انكسرت روحه، ليغادرنا فى مثل هذه الأيام.
وفى عز هجير الموسيقى الزاعقة التى تنهال علينا أينما ولينا أسماعنا، لاتزال أنغامه هى نسيم الروح!!