«السينما دخلت حياتي من الخارج، لم أكن أعرف عنها شيئًا، نعم كُنت أحب أن أشاهد سينما، لكن كيف يعد هذا الفيلم؟ لا أدري، كُل ما أعرفه أن هذا الفيلم لرودلف فالنتينو، لماري بيكفورد، لا أعرف أن هناك كاتب سيناريو أو غيره»، هكذا قال نجيب محفوظ، عن بداية رحلته مع السينما، في أحاديثه أواخر الثمانينيات للأديب الراحل، جمال الغيطاني.
وأضاف: «في سنة 1947، قال لي صديقي، فؤاد نويرة، المخرج صلاح أبوسيف عاوز يقابلك، في هذه الفترة كانت لي عدة روايات، آخرها (زقاق المدق)، وبالفعل ذهبت مع فؤاد، كُنا في الصيف، قابلنا صلاح أبوسيف في شركة (تلحمي) السينمائية، وقال لي، إنه لديه قصة (عنتر وعبلة)، قلت له: أنا ليس لدي فكرة عن الموضوع، قال: معلش ستعرف السيناريو، وبدأ يشرح لي الموضوع».
في بدايات عام 1945، جاء أول أفلام نجيب محفوظ، «مغامرات عنتر وعبلة»، وتم تصنيفه محفوظ آنذاك كأول أديب عربي يكتب للسينما، وتوالت الأعمال فيما بعد في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، بدءً من فيلم «المنتقم»، 1947، «لك يوم يا ظالم»، 1951، «ريا وسكينة»، 1953، ومرورُا بـ «فتوات الحسينية» 1954، «شباب امرأة»، 1957، وحتى «أنا حرة» و«إحنا التلامذة» في نهاية الخمسينيات.
توقّف بعدها شريط إنتاج نجيب محفوظ السينمائي قليلاً، بعد أن سار على الدرب، بفضل «قناص الروايات»، المخرج، صلاح أبوسيف. ويرجع ابتعاد نجيب محفوظ عن السينما في تلك الفترة إلى توليه منصب «مدير الرقابة»، تلك الفترة التي أطلق عليها اسم «سنوات اليأس الأدبي»، فكان محفوظ موظفًا يستيقظ صباحًا، يؤدي عمله الروتيني، يتناول خمسة فناجين قهوة، لا يكتب في اليوم إلا 3 ساعات، حتى يخلد إلى النوم في الثانية عشر ليلاً.
بخصوص وظيفة الرقيب، قال نجيب محفوظ بوضوح إنه قَبِل أن يكون رقيبًا لأنه كان موظفًا في وزارة الثقافة، ولا يستطيع الاستغناء عن الوظيفة الحكومية، وبالتالي لم يكن يستطيع أن يرفض طلب وزير الثقافة ثروت عكاشة بأن يكون رقيبًا.
وعن نجيب محفوظ في ثوب «الرقيب»، قال الناقد السينمائي، كمال رمزي، إن «الرقيب» عادةً ما يكون موظف حكومي، لا يتغير باختلاف الأنظمة والحكومات، يُنفذ التعليمات المطلوبة منه، حيثُ تستخدمه السلطة كأداة تُنفذ بها ما تريد، ورغم الصفات التي ذكرها «رمزي» للرقيب المثالي، إلا أنه يرى أن نجيب محفوظ كان فطنًا، احترمه الكُل، سواء ممثلي السلطة أو المبدعين.
وفي أواخر الستينيات، أي الفترة التي تولى بها نجيب محفوظ الرقابة الفنية، كان هُناك تناغم بين السلطة والإبداع، حسب ما يرى «رمزي»، كمّا أن نجيب لم يكُن صداميًا بطبعه، حيثُ تعامل مع كل المواقف بذكاء شديد.
يتذكر «رمزي» أحد المواقف الرقابية التي تصرف فيها نجيب بذكاء شديد، قائلاً: «نجيب ليه موقف مع صديقه المُخرج، توفيق صالح، كان عامل فيلم اسمه (القُلة) عن صناعة القلل؛ في الأمثال الشعبية، وإزاي بيعجنوها، ورقصة القُلة، وفي أحد المشاهد كان هُناك سيدة ترقص وبين ساقيها قُلة، كان فيه لجنة رقابية بتتفرج على الفيلم، ومن بينهم نجيب محفوظ، وأقرت اللجنة حذف المشهد».
عاتبَ بعدها توفيق، صديقه نجيب قائلاً: «إيه يا نجيب الفيلم بتاع صديقك تحذف منه مشهد؟»، فردّ الأخير بضحكته المُجلجة: «يا أخي اللجنة معاها حق، راحت فين القلة اللي خفتها؟».
ويرى الناقد الفنّي، طارق الشناوي، أن تجربة نجيب محفوظ كرقيب كانت إيجابية، ففي الفترة التي تولى فيها الرقابة، لم يسمح لأي منتج سينمائي أن يقدم أعماله الخاصة، كمّا كان مُستنيرًا، فعند إنتاج أغنية «يا مصطفى يا مصطفى»، اعترضت الرقابة على الأغنية، وشرعت في إصدار قرار بمنعها تمامًا، اعتقادًا منهم بأن الأغنية تحمل مغزى سياسي، يُعارض ثورة يوليو 1952، تحديدًا عند المقطع الذي يقول: «سبع سنين في العطارين، وأنا بحبك يا مصطفى»، أي بعد 7 سنوات من الثورة، والمقصود هُنا، رئيس الوزراء في عهد الوفد، مصطفى النحاس، وكان لنجيب محفوظ موقف مختلف، حيث ضرب بتقرير الرقابة عرض الحائط، وسمح بعرض الأغنية.
«نجيب محفوظ قال في حواراته إنه عندما يكتب لا يُفكر في شئ سوى أن تكون رواياته جميلة ومقنعة ومحبوكة»، حسب حوار قديم نُشر في مجلة «العربي الكويتية» عام 1959، وأضاف «لا حياء في الأدب»، وهو الأمر الذي جعله يتمتّع برقابة ذاتية، قبل تقلده منصب الرقيب الفني، وفقًا لرأي الروائي والكاتب، ناصر عراق، فكان يُراعي العادات والتقاليد، دون أن يشعر أو يقرر، فعلى سبيل المثال لم يستخدم محفوظ لفظا خارجا مما استخدمه كتَّاب جاءوا بعده.
في بداية السبعينيات، عاد نجيب محفوظ إلى السينما، وعندما حصل على جائزة «نوبل» عام 1988، كأول عربي يحصل على هذه الجائزة في الأدب، كان رصيده 59 فيلمًا سواء في شكل قصة، رواية، أو أفلام كتب لها القصة والمعالجة السينمائية أو السيناريو، كمّا بلغ نصيبه في قائمة أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية 17 فيلمًا، واحتل المرتبة الثانية كأفضل كاتب سيناريو في تاريخ السينما المصرية، بعد السيناريست، على الزرقاني.
بعد حصوله على جائزة نوبل عام 1988 التفتت إلى أعماله السينما العالمية، فتم تقديم الفيلم المكسيكي «حارة المعجزات» المأخوذ عن «زقاق المدق»، كما قدمت السينما في أذربيجان فيلم «اعترف» عن رواية «اللص والكلاب».
ورغم كُل ذلك، يقول نجيب محفوظ في أحد حوارته: «الحقيقة أنني لم أكن سعيدًا بكتابة السيناريو، أنت كروائي رب عملك، ولكن هذا نوع من الخلق الجماعي، تقول يمين، تجد من يقول لك شمال أحسن، بعض هذه الآراء تكون وجيهة فنيًا، آخر يبدي آراء من وجهة نظر تجارية، واحد يبدي رأيًا لأنه يحب الممثلة، لم أكن سعيدًا بهذه العملية».
وعن الأفلام السينمائية التي نقلت عالم نجيب محفوظ الروائي، قال طارق الشناوي، إن السينما كانت تُحاكي روايات محفوظ، وليس العكس، كمّا تصور أننا لم نصل بعد في أدب نجيب محفوظ في التعبير السينمائي، فيما اختار «خان الخليلي»، و«بداية ونهاية» من إخراج صلاح أبوسيف، كأصدق الأعمال السينمائية التي نقلت عالم محفوظ بشفافية.
بينما رأى الروائي، ناصر عراق، أن الأعمال التي صنعها المخرجون من وحي روايات محفوظ ابتذلت هذه الروايات وقدمتها بصورة مخلة جدا، باستثناء صلاح أبوسيف الذي حقق رواية «بداية ونهاية» عام 1960، فيما كانت «الحرافيش» هي التجربة الأسوأ، أهانتها السينما ومزقتها تمزيقا، وسطا كل مخرج على حكاية من حكاياتها العشرة وقدمها بصورة ساذجة وسخيفة، رغم ما تحمل هذه الرواية العظيمة من قيم وجماليات بالغة السمو والعذوبة.
وفي حين قال الناقد، كمال رمزي، إن روايات محفوظ كانت صيدًا ثمينًا لصناع السينما، ساهم في تشكيل الوعي الشعبي عند المجتمع المصري، لم يكُن نجيب محفوظ مُقتنعًا بشكل كامل بأعماله السينمائية، إذ قال لـ«الغيطاني» في أواخر الثمانينيات، إن السينما لم تُمثل له إغراءًا ماديًا أو أدبيًا: «لولا أن ظروفي في العمل مع صلاح أبوسيف كانت ملائمة لي، لما دخلت هذا المجال أبدًا، ومما لا شك فيه، أنني لم أكتب أي شئ في حياتي وعيني على السينما، لم يحدث هذا إطلاقًا، الأدب أدب، والدليل أن الروايات التي تحولت إلى أفلام، تحولت بصعوبة ومعجزة، هل ممكن لمؤلف أن يكتب (ثرثرة فوق النيل) وعينه على السينما؟».