x

جمال الجمل بالفيديو: خان شاهد على انتحار السندريللا (سعاد-2) جمال الجمل الإثنين 29-08-2016 23:03


(1)

لم تفاجئني ردود الأفعال، والأسئلة التي وصلتني من البعض عن الأسرار والخلفيات التي دفعتني للابتعاد عن المقالات السياسية الساخنة، والكتابة عن سعاد حسني، وخمن البعض أن هذا الاتجاه نتيجة ضغوط سلطوية، (سياسية أو مهنية)، ورأى آخرون أنها حيلة للتهدئة وتجنب الصدام في مرحلة خشنى يضيق فيها صدر أجهزة الحكم من النقد والمعارضة، وامتدح قليلون هذا التنويع محبذين الرغبة في الخروج من الموضوع الواحد المفروض على مصر منذ 5 سنوات تقريبا، وهو موضوع الحكم وعلاقة الناس بالسلطة.

(2)

لم أقدم تفسيرا للمعارضين، ولم أتجاوب مع المؤيدين، ولم أتعاطف مع المتشكيين، ليس لشيء في نفسي، ولكن لعدم وجود شيء في نفسي!، فأنا أعاني منذ شهور مما يعرف بنوبة "writer’s block"، ولأول مرة في حياتي أكتب من غير رغبة داخلية وإحساس بمتعة الكتابة، وهذا الضغط الخارجي ليس من جهة ولا بداع الاحتراف الوظيفي، لكنني أخشى في هذه الفترة أن أبتعد عن الكتابة فتبتعد عني، لدي مشاريع كبيرة وطموحة في الكتابة البحثية والدرامية، ولا أريد أن تطغى الحالة المزاجية في علاقتي بالكتابة فتتأخر أو تضيع أحلام الكتابة، كما تأخرت وتقترب من الضياع أحلامنا الواقعية، لهذا أمارس الكتابة عنوة، كما يفعل الرياضي المصاب في تدريباته، قد لايلعب المباريات الكبيرة، لكن عليه أن يوازن بين العلاج والحفاظ على لياقته بجرعات تدريبية متنوعة لا تشكل عبئا عليه، فالراحة الكاملة قد تقضي على مستقبله الرياضي، وزيادة الحمل التدريبي قد تؤدي إلى نفس النهاية أيضا.

(3)

التنويع.. كان أحد الأساليب التي اهتديت إليها لعلاج حالة "قفلة الكاتب"، وقد أرهقت نفسي كثيرا في ضبط جرعات هذه الصيغة العلاجية (لي وللقراء المهتمين بعملية القراءة ذاتها، أو بالمتابعة للشأن العام، أو المرتبطين بأسماء وأساليب كُتَّاب بعينهم، أو رؤوس موضوعات بذاتها)، ولما كانت كتابة "البورتريه الإنساني" من مشاريعي القديمة في الكتابة، فقد عدت إليها، لاستكمال حلم قديم، وليس للهروب من ضغوط واقع آني، واللطيف أنني لم أبدأ بتحليل شخصية سعاد حسني، لكنني استعدت علاقتي بذلك المشروع القديم يوم وفاة المخرج محمد خان، فقد كان لدي اتفاق مع صحيفة عربية رصينة لكتابة مقال عن الربيع العربي.. ضمن ملف بعنوان: "هل كانت ثورات؟"، واستيقظت مبكرا لأكتب، وإذا باتصال يطلب مني تأجيل مقال الثورات، والكتابة عن محمد خان، ولم اسأل في المكالمة: لماذا؟، لأنني كنت أخشى من سماع الإجابة التي توقعتها بحكم معرفتي بدوافع الصحف لتغيير خطط النشر المعدة سلفاً، وهو الخبر المحزن الذي تبين لي من أول متابعة للأخبار وصفحات التواصل الاجتماعي، وبالرغم من أنني كتب المقال من الذاكرة في اقل من ساعة، إلا أنني عكفت بعده لأيام على مراجعة حياة خان، من خلال اللقاءات المتعددة بيننا، وبعضها مسجل صوتياً، ومشاهدة كل أفلامه التي أحتفظ بها مع مقابلاته التليفزيونية، وجانب كبير من صوره و"بوستاته" على "فيس بوك" ومقالاته التي صدرت مؤخرا في كتاب مهم، داخل ملف ضخم بعنوان "ذاكرة فارس المدينة"، وانتهت فترة الاعتكاف والانعكاف بوضع الخطوط العامة لما أسميته "الكتاب السينمائي" عن رحلة محمد خان بين الواقع والشاشة.

(4)

على مدى علاقتي بمحمد خان لا أتذكر أننا تحدثنا عن سعاد حسني، إلا بشكل عابر كممثلة قامت ببطولة فيلمه "موعد على العشاء"، ونجمة راوده حلم الجمع بينها وبين فاتن حمامة في بطولة مشتركة لأول مرة من خلال فيلمه "أحلام هند وكاميليا"، لكن المشاركة كانت من نصيب نجلاء فتحي وعايدة رياض أمام أحمد زكي، لذلك تاثرت جدا بمشهد بكاء خان في مهرجان الأقصر الأخير، وهو يتذكر سعاد حسني، وتأثرت أكثر عندما سألته إحدى المذيعات عن سعاد فلم يتحدث كثيرا عن الممثلة، بل تحدث بشجن عاطفي صادق عن الإنسانة، ومع ذلك لم يتردد في الإجابة عن سؤال النهاية جازماً بأن سعاد لم تُقتَل، ولكن انتحرت.

(5)

كان خان أول فنان، وربما أول شخصية مشهورة تعلن ذلك بجرأة على الملأ، فالموضوع حساس، ونفي انتحار سعاد كان هو السائد، لتصور هؤلاء أن الانتحار إدانة للمنتحر، لكن خان ذهب إلى ماذهبتُ إليه في كتاباتي المنشورة قبل ذلك بسنوات، عن الفهم الدرامي لمصير سعاد كشخصية تعاني، لذلك صدق خان الدراما، مواجها بطريقته المميزة طوفان السائد، فقد رأى أن الانتحار هو النهاية الدرامية المتوقعة لصراع الشخصية، والمثير أكثر أنني اكتشفت أثناء مشاهداتي أن خان قام بتصوير مشهد انتحار سعاد بسقوطها من الشرفة العالية، وذلك في مشهد لم يتوقف عنده معظم النقاد والمشاهدين في فيلم "موعد على العشاء" عندما تصاب "نوال" بكابوس ينتهي بإلقاء نفسها من البلكونة.

شاهد مشهد الانتحار: https://youtu.be/m5zZpJaUgks

(6)

لقطة انتحار "نوال" جاءت في ختام مشهد مشحون بالعاطفة والألم، تعود فيه الشخصية إلى طفولتها المأزومة، حيث تشعر بالضياع في طريق لا تعرف إلى أين يأخذها، وقد عبر خان مع كاتب السيناريو عن هذا المشهد من خلال ربط مشاعر الشخصية بمعادل فني لطفلة في لوحة زيتية، حاولت نوال شراءها من المزاد في بداية الفيلم، لكنها ذهبت إلى تاجر لوحات، وعندما رأتها بالصدفة مع تأزم الأحداث، ونجحت في اقتنائها استعدت مجدداً الإحساس العميق بالتيه والضياع، وكأن الفن هو الذي يفتح نوافذ الروح على الماضي الحبيس، فيشعل الصراع الذي قد لا يحتمله الإنسان، ما يدفعه إلى التخلص من الواقع، ومن الماضي معاً، محاولا الوصول إلى هدف غامض، يشعر به بقوة، لكنه لا يعرف الطريق إليه.

(7)

من هذا التصور الدرامي فإن فرضية الانتحار ليست إدانة للشخصية، بل إدانة للواقع المحيط بها، إدانة لأم نوال التي باعتها لزوج ثري، بينما البنت الرومانسية لاتحبه، وإدانة للزوج النفعي المتغطرس المصاب بداء الاقتناء، وإدانة لظروف واشخاص كثيرين نشعر بهم ولا نعرفهم، قد يكون الأب الغائب، والصديقات اللاهيات اللاتي لا يدركن ابعد من حياتهن، وإدانة للقدر نفسه، للزمن الذي لايناسب حياة شخص ما.. إنه كابوس، قد يتحول إلى واقع في لحظة، وقد يظل كابوساً نعيشه من غير أن يقتنص حياتنا الواقعية، لهذا أرى أن حب سعاد للحياة كان حقيقياً، ومع ذلك لايمكنه وحده أن يمنع رغبتها الملحة في الخلاص من الصراع الذي يهدد الحياة المحبوبة، كما أن رغبتها العارمة في العودة إلى الشاشة، شابة مرحة في صورة السندريلا الخالدة، لا تتعارض أبداً مع سعيها للتخلص من عبء هذه الرغبة، طالما أن الواقع المعاكس يمنعها من التحقق.

(8)

ومثل بعض الحوادث الغامضة لسقوط الطائرات بلا سبب، تنكسر بعض الشخصيات تحت ضغط الصراع الخفي، أو تحت تأثير ما يطلق عليه خبراء حوادث الطيران "تعب المعادن"، حيث تتراكم الهزائم الصغيرة والاحباطات المتناثرة، والأحلام المكسورة، وتؤدي في النهاية إلى إعصار كاسح حسب نظرية "تأثير الفراشة"، وتنفجر الكارثة في لحظة.. مجرد لحظة تنتصر فيها "رغبة الخلاص" على "رغبة الحياة"، فيدلف الشخص من عالم الواقع المرفوض، إلى عالم الأحلام المشتهاة، وهو العالم الذي تمثله لسعاد "صورة زوزو النوزو"، الصورة المثال في حياة نجمة الأمل والألم، نجمة الأفراح والأتراح، نجمة الحرية والقهر.. الانطلاق والقيود، فسعاد لم تكن "زوزو" وفقط، بل كانت أيضا إحسان شحاتة، وفاطمة زوجة ابو العلا، وشفيقة ضحية الزمن والتقاليد.

وللحديث بقية

جمال الجمل

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية