إهداء:
إلى روح علاء الديب، علّنا نفيق.. قبل المنحدر
(1)
ارتكبت جريمة قتل واحدة في حياتي.. هذا ما أحاول أن أقنع به نفسي كقاتلٍ، يؤنبه ضميره أحياناً، لأنني في الحقيقة ارتكبت جرائم قتل أخرى كثيرة، وربما جرائم سرقة، واحتيال، وتعذيب سادي، لكنني نسيت معظمها تحت تأثير مخدر التكيف الذي أدمنته، (مثلكم جميعا).. فكلنا نتعاطى نفس المخدر (مخدر الضمير)، ثم ننكره ونخفيه عن الناس، وعن أنفسنا، باستخدام تلك الحيلة البسيطة التي يتصور السذج في النكتة أنهم خدعوا بها النمل: نكتب على زجاجة «مخدر الضمير» أسماء مستعارة كثيرة، لاحظت من بينها شيوع استخدام كلمة «الوطن».!
(2)
لا ترتبك إذا كنت ممن يكتبون هذه الكلمة (الوطن) على علبة «مخدر ضميرك»، ولا تتصور أنك وحدك الذي يمارس ذلك الخداع، فالأغلبية النشيطة تفعل فعلك، وإن اختلفت الأسماء التي يخدعون بها الآخرين، هناك من يكتب على مخدره كلمة «الأخلاق»، وهناك من يكتب «الناس»، وهناك من يكتب بخط كبير وواضح «المصلحة العليا للبلاد»، وهناك من يعاني من أوجاع مزمنة ومتكررة في الضمير، ما يضطره إلى زيادة جرعات المخدر بشكل ملفت، وحتى لا يفتضح أمره أحد، يكتب «الدين»، بل إن هناك من يستخدم كلمة «الله».
(3)
لا داعي للتوتر والقلق من هذه الاعترافات، لأنها لا تفتش في دفاتر جرائمكم، بل تخص جريمتي أنا، لا تنسوا ذلك.. لا تنسوا أنني بدأت باعتراف مذهل، يوفر لكم متراساً للاحتماء خلفه، ما عليكم إلا إثارة الغبار، وإشعال فتيل قنبلة الضجة الكلامية حول تفاصيل جريمة القتل التي ارتكبها كاتب معارض لـ«النظام» منذ سنوات طويلة، ما عليكم إلا أن ترفعوا زجاجة المخدر فيتناول كل منكم جرعته، مردداً الاسم الذي اختاره كمدخل للخوض في سيرة الكاتب الرجيم.. مرة كخائن للوطن، ومرة كمثقف نخبوي لا يهتم بمصلحة الناس البسطاء، ومرة كعميل يساهم في تخريب ثوابت الأمة، دون مراعاة للدين أو للأخلاق، لكن عليكم أن تعرفوا أنني لست مسيحاً يتلقى الصفعات على حاضره، فيمنحكم مستقبله لتنهالوا عليه بما لديكم من نفايات.. «أنا قاتل». تذكروا ذلك جيداً، وأنتم تلعبون معي لعبتكم الخطرة.
(4)
أتذكر تماما تفاصيل اليوم الذي اتخذت فيه قراري، زرت صديقي في مقر عمله بهيئة الكتاب المطل على النيل، وبعد احتساء الشاي سألني:
حذرني صديقي من ذلك بشدة، وقال لي: ستندم على هذه الفعلة كثيراً، لكنني كنت قد صممت على قراري، وخرجت من مكتبه وحدي، وقد قررت التخلص منه نهائياً.. قررت قتل الشِعرْ.
(5)
لم تكن عملية القتل صعبة، كانت مجرد كلمة حاسمة لنفسي ولأصدقائي: «سأتوقف عن كتابة القصائد»، لكن الصعوبة كانت في التخلص من الجثة، ومن الذكرى، وهذا ما فعلته ببلادة حسية يحسدني عليها «إد جين»، وساعدني على ذلك القرار انخراطي في العمل الطلابي بالجامعة، واهتماماتي المجتمعية والسياسية التي امتدت من نهاية السبعينيات وحتى منتصف التسعينيات، لكنني اكتشفت بعد سنوات أنني لم أتخلص من الشعر كارها، ولم أقتله ببشاعة مثلما فعل سفاح تكساس المعقد، بل قتلت «جسد القصيدة»، طمعاً في استخلاص «روح الشعر»، كما فعل جون باتيست جرينوي بطل رواية «العطر»، الذي قتل 25 حسناء للحصول على عطره الأسطوري الساحر.
(6)
لم يمت الشعر إذن، لم يخرج من حياتي، ومن حياة الناس، واكتشفت أننا قد نحطم هيئة القصيدة، نعصرها، نسحقها، نعدم جسدها ومعمارها وشكلها المادي، لكن روح الشعر تبقى بتأثيرها الساحر على البشر، دون أن يفهموا بالضرورة سر ذلك السحر، وقد لمست ذلك في نظرتي للحياة، وعرفت بعد ارتكابي للجريمة أن الشعر ليس نظم القصائد، ولكنه نظرة للحياة، نظرة تلتمس الصدق في المشاعر والقدرة على التعبير عنها بأساليب وأشكال لا نهائية، فهناك ساسة شعراء، ليس «سنجور» فقط، «ماو» كان شاعرا، و«عبدالناصر» كان شاعراً، ورسولنا العظيم رماه قومه بتهمة الشعر والسحر، وهناك رياضيون شعراء: بيليه شاعر، ومارادونا شاعر، وميسي شاعر، وناديا كومانتشي شاعرة، ومحمد على كلاي شاعر، وهناك فلاحون وعمال وأمهات وحرفيون وعلماء ينتمون إلى الشعر في مجالاتهم ومجالاتهن، بهذا المعنى الفلسفي، وقد يكون معظمهم لم يكتب قصيدة واحدة، وربما لم يسمع شعرا في يوم من الأيام.
(7)
قد يخطر على بالكم أنني أسعى للتكفير عن جريمة قتل القصيدة، بإحياء روح الشعر، أو التعبير عن ندمي في اعتراف علني يساعدني على الاستمرار في تعاطي «مخدر الضمير»، لكن هذا ليس جوهر القضية، ولا سبب الاعتراف، القصة أنني انخرطت لسنوات طويلة في السياسة والهم اليومي بدرجة شعرت معها بصدأ الروح، ليس روحي فقط، ولكن روح المجتمع كله، وروح العصر المستلب في هوس المنافسة وسباقات الإنجاز، ورغبات الاستهلاك المفرطة، لذلك نحن (والعالم من حولنا) في حاجة إلى ما وصفه الشاعر الأمريكي العظيم «والت وايتمان» بضرورة «الحقن الروحي» لبث النضارة في حضارة الدولار والحجارة، لا يكفي أن نهجو المادية، ونندد بمساوئ «وول ستريت» ونكفر بأوثان التشيوء كما فعل جينسبرج وجيل الغضب تحت خيمة وول ستريت المتوحشة، لابد من فعل إنساني يضع حدا لتكاثر الزومبي، وسيطرة الماتريكس على مفاتيح حياتنا.
(8)
لقد صار واضحاً لكثيرين غيري أن نصيباً كبيراً من أسباب المشاكل في مجتمعنا يعود إلى تنحية الثقافة والإبداع عن حياتنا، حتى تحول المصري إلى كائن بيولوجي محض يصارع على متطلبات جسده غافلاً عن تغذية روحه، ولما رحل الحبيب علاء الديب، وتوقفت جرعة «عصير الكتب» التي كان يبل بها جفاف ريق الظامئين، شعرت بالخطورة تتزايد، وفكرت في تخصيص مساحة مقالي هنا، لقضايا الثقافة والإبداع، وعبير الفكر، وحصاد الكتب، آملا أن يسهم هذا الجهد الفردي في فتح باب المصالحة بين جسد المجتمع وروحه، بين عضلاته وعقله، بين السياسة والثقافة، بين الدنيا والدين.
فلنجرب.
* هذه المقالات لن تلتزم بصرامة النقد الأكاديمي، ولن تساير أمراض المجاملات الإعلانية، ولن تلتفت لصرعة الترافيك، ولن تستهدف إثارة الغبار والخصومات بين شخوص المثقفين، أفكر فيها كساحة تواصل، وتعريف، وقراءة حرة، أفكر في الاهتمام بالمقال الأدبي الذي انطفأ في زحام التعليق الإخباري واللغة الدارجة، والأهم أنني أفتش عن فرصة لصناعة محبة إنسانية تعيد الثقافة والنور إلى برامجنا اليومية التي تعاني من الجفاف والخشونة، وعلاقاتنا الإنسانية المهددة بالانعزال أو التحرش.. أرسلوا إبداعاتكم، وشاركوا في الحوار، فالمجتمع في أمس الحاجة إليهما.. الإبداع والحوار معاً.