ــ سؤال قبل المقال: إنت معانا ولا مع الناس التانيين؟!
@ إهداء المقال: إلى الناس التانيين
(1)
هل تشعر أنك في طريق الصواب؟
هل أنت عضو في مجموعة أو جماعة تشعر معهم بالرفقة والدفء وروح العائلة الواحدة؟، أم أنك مثلي تشعر بالوحدة والاغتراب والتيه والضلال والأنانية؟
(2)
هل تعرف أن لكل جماعة أو طائفة أو مذهب وجود ما، حركات ما، ألسنة ما، دوران ما، سـُكر روحي ما، ضحكات ما، بخور ما، أيقونات وتماثيل ما، طقوس وشعائر وفروض ما؟.. أم أنك تحيا اليوم في العادي.. تجوع فتأكل عادي، تعطش فتشرب عادي، وغداً تموت عادي.. مثل كل الحيوانات والبشر؟
(3)
هل تعرف أن العالم كله مزدحم ومتنافس ومتصارع حتى في ماراثون الطريق إلى الحقيقة؟.. كل واحد يتخيل أن معتقده ومذهبه، طائفته وجماعته هي الحقيقة المطلقة>
وألا شريك له خارج هذه الحقيقة، فالعالم كله منقسم إلى: مَن معه، ومَن عليه.. مَن مع النور الذي هو نوره .. ومَن مع الظلام الذي هو الآخر
(4)
هل تعرف أن لكل معبد (وهيكل، ومكان للعبادة، والشركة، والإتحاد، والعهد، والبيعة..إلخ) صندوق للنذور، وإيقاعات جسدية مشتركة، ولغة مشتركة، واختبارات خاصة، وحالة موحدة من الوجد والحضور المشترك، حيث يوجد للمنتمي، وللمؤمن، وللعضو، وللتلميذ، شكل ما.. إطار ما.. برواز ما، إذ لم يسكن بداخله.. لا، ولن يـُـقبل.. إذ لم يشابه القائد، ووينضوي في معية الجمع، فلن يصعد سلم الرضا والقبول والإقتراب الحميمي، فالدائرة الأولى واسعة جداً ومع الإنتماء والتقليد والتشبه والعهود، تنتقل لدائرة أضيق فأضيق فأضيق فأضيق.
(5)
هل تعرف أن لكل جماعة، أو طائفة، أو مذهب، مطبخ ما لا يدخله غير المقربين جداً، المنتمين جداً، المتشابهين جداً، المستنسخين جداً.. هكذا هو هرم الجماعات، حيث الأوطان الموازية، والكهوف الموازية، والسماوات الموازية.. دائرة جهنمية تفوق كل تخيل غير التخيل البشري، والعجب العجاب.. أن كل جماعة ترى أن الجماعة الأخرى غير منطقية، وجنونية، وخرافية، وأفيونية، وضلالية. وكل جماعة تــُبرر لنفسها ما هو أكثر خرافية وأكثر جنوناً وأكثر ضبابية!
(6)
كيف تبرر كل جماعة هذا التمييز لنفسها ضد الآخر؟، ولماذا تشعر براحة ضميرها وهي تحكم على غيرها ولا تحكم على نفسها؟، ولماذا يتوهج عقلها فقط في نقد الآخر.. وينبض قلبها فقط عندما تكيل بمائة كيل وليس بمكيالين فقط؟.. فالجماعة دائما تدعي التواضع وهي حالة من حالات الكبرياء المنتفخ.. تحكم على كل الجماعات والطوائف والمذاهب والعقائد.. تحكم على ملايين ومليارات البشر بالإدانة، وتضعهم في هاوية الضلال بدمٍ بارد وابتسامة بلهاء، تتلذذ بضلال الكل وصوابها وصلاحها وتقواها.. إنها المجموعة التي بلا دنس.. الفرقة الناجية.. الطائفة المستقيمة المذهب الصحيح.. الناجون وحدهم من النار
(7)
لا أعرف من منكم حضر حوارا بين جماعتين أو شخصين يشعر كل منهما بعصمة أفكاره؟.. من حضر سيعرف معنى حوار الطرشان في أعمق مراحله، فصراع المُطْلَقات يفوق الحرب النووية (ما أدراك بقلب يشعر بالعصمة؟)
(8)
الآن اعرف قيمة أن تمتحن كل شيء.. وتظل تمتحن إلى أن تموت: تمتحن نفسك أولاً.. جماعتك أولاً.. طائفتك أولاً.. تظل تفتش في الكتب وتبحث.. فلا يوجد أسهل من الإجابة في المعابد كلها، لا يوجد أسهل من سلام القلب الميت الذي يتخيل أنه حي، فالأفيون الروحي والنفسي صنع هذا الكوكب البائس الذي نقطن فيه.. ونتصارع فيه بتوحش تبرره الغاية المقدسة، حيث التي تبرر لنا أيضا الإنعزال عن العدالة والحرية، وخذلان الفقراء، وحيث زخرفة القبور والمعابد، وأقنعة التقوى تفوق التخيل، وحيث جوع الإنسان للقبول، وللرضا، وللتشجيع، وللدفء، وللحميمية، وللإحتماء.. رهيب جداً
(9)
التاريخ البشري مزدحم بملاك الحقائق النهائية، إلى حد إدعاء العصمة، إذا لا يوجد أسهل من أن تصبح شخص غير مُصغٍ، لا يوجد أسهل من أن تصبح خروف من القطيع الأمين والصالح، لا يوجد أسهل من أن تطيع.. أن تسلم نفسك وروحك لقائد ما، أو جماعة ما، أو طائفة ما، فمذبح الأضحية البشرية لم يتوقف، فقط استبدل الأجساد بالأرواح، وهناك من أبقى على تقديم جسده طائعاً على مذبح الضحية.. فشهادة التأمين الروحية تجعل المستقبل المجهول أكثر خضارا وزاهي وغير مربك.. لا يوجد أسهل من أن تغمض عينيك وتسلم يديك لآخر، يأخذك حيث يشاء، ويأخكما معاً حيث يشاء من يمسك يديه هو.. وكذا طابور من التسليم، من التقليد من العنعنة، من التنازل عن البحث والنقد الموضوعي والاختلاف، فهناك في معسكرات العصمة لا يوجد أسهل من توقيعك شيك على بياض.. هو عمرك، فالراحة مطلب جماهيري جداً، والهروب من المسئولية حل لا مثيل له في خضم العالم، وتخمة الأنانية المقدسة مخازنها جذابة جداً، والحرية مزعجة جداً!.
(10)
هناك فقط في معسكرات العصمة يظل الإنسان قادراً على الخضوع والطاعة والتضحية في الداخل، وقادرا على التبرير والجدال والقتال في الخارج.. وإذا لم ينتصر في الواقع، سينتصر حتماً في خياله وأوهامه، بين عشيرته المنتصرين مثله في أوهامهم.. هناك بعيداً عن الواقع، وعن العلم، وعن الوجود، وعن الفقر، وعن العجز والمرض.. هناك في صومعتهم، واجتماعهم، ومذهبهم، وطائفتهم.
(11)
هناك فقط في معسكرات العصمة تكون العشيرة جماعة من المنتصرين، المهللين، الفرحين.. يشعرون (هناك فقط) أنهم أغلبية، وأنهم بارعون، ومرتفعون، وأقوياء، وشامخون.. هناك فقط يعيشون باستكانة حيث الإجابة التي لا شريك لها، حيث الإنسان المتميز والمتفرد والمختار والمهم (برغم أنه يشابه الجميع هناك)، لكن الفرد في عالم الإستنساخ يشعر بسراب طعمه ولونه ورائحته، فكل الطرق تؤدي إلى الفخ المقدس، والتشابه المقدس، والطاعة المقدسة، والأمل المقدس، ويظل الواقع الخارجي يُذَكِّرنا دوماً بأن الإنسان هو المشكلة، وهو أيضاً الحل
..........................................................................................................................................
* المقال بقلم: حسن اسماعيل (أمين عام الجمعية الوطنية لتدعيم الثقافة المصرية)
جمال الجمل
[email protected]