(1)
هل من جديد يمكن لكاتب أن يقوله عن سعاد حسني.. السندريلا التي عاشت وماتت تحت مجهر الضوء؟، هل من جديد يقال بعد كل ما أثير حولها من شائعات، وأخبار عن الزواج والطلاق والانتحار، والأساطير التي تداولتها صحف الإثارة عن حياتها الفنية وعلاقاتها الغرامية، وبخاصة مع أيقونة الغناء في الستينات عبدالحليم حافظ الذي ارتبط معها بقصة حب مثيرة تناثر حولها الكثير من الكلام؟.
(2)
قبل رحيلها المباغت بعامين تقريبا، عكفت على دراسة حياة سعاد، ونشرت جانباً كبيراً من هذه الدراسة في حلقات صحفية، وتحمس الزميل العزيز إبراهيم منصور للحلقات، واتفق مع الناشر الصديق محمد هاشم على نشرها في كتاب، ثم فوجئ باعتذاري عن ذلك، لإيماني بأن الكتب لها طبيعة مختلفة عن النشر الصحفي، وعبثا ظل إبراهيم كل فترة يلح في نشر هذه الدراسة، خاصة بعد فاجعة الرحيل الغامض للسندريلا، لكن موقفي لم يتغير من النشر في كتاب، مع أن دراسة حياة سعاد ظلت مشروعاً أعود إليه بين الحين والآخر، مدفوعا بالغيرة من كتاب رولان بارت المعنون «وجه جريتا جاربو»، وبما كتبه ألبرتور مورافيا عن كلوديا كاردينالي، وسيمون دي بوفوار عن بريجيت باردو، وإدوارد سعيد عن تحية كاريوكا..
(3)
كنت أشعر بكثير من الألم والمرارة، وأنا أتابع جرائم التمثيل الإعلامي بصورة سعاد حسني، التي تحولت إلى «نقطة بيع» لاصطياد زبائن الإثارة في الصحف والمواقع الرخيصة، صدرت عشرات الكتب، وعشرات الآلاف من التقارير والأخبار، التي ابتعدت كثيرا عن الجوهر الإنساني والموهبة الفنية لسعاد، وركزت على البعد الفضائحي أو الجنائي، وكانت هذا الحالة التي تعودنا عليها في الأداء الإعلامي تجاه الفنانين والفنانات تحديدا، من أهم الأسباب التي دفعتني لتأجيل الكتابة لموعد لا أعرفه، وبرغم مرور السنوات لم أصرف النظر عن ذلك الوعد أبداً، وتقديري أنني الآن أستطيع أن أفي بوعدي وأكتب عن سعاد، وكلي ثقة أن الكتابة عنها لا تتعارض مع الهمّ السياسي والاقتصادي الذي تعيشه مصر، بالعكس، ربما تكشف لنا هذه الكتابة عن رأس الجسر الخفي الذي يربط بين حياة الفنان، وحالة المجتمع وتوجهات السلطة في زمانه.
(4)
التقيت سعاد لآخر مرة في صيف 1992، وسجلت معها حوارا تليفزيونيا أجرته الناقدة السينمائية هبة الله يوسف لتليفزيون «المشرق» اللبناني الذي توقف عن البث أواخر التسعينات، وأثناء إعدادي للدراسة كانت قد سافرت إلى العاصمة البريطانية «لندن» في رحلة علاج بدأت في يونيو 1997، وانتظرت عودتها، لكن الغربة طالت، فحاولت الاتصال بها، وساعدني في ذلك الصديق الإعلامي شحاتة عوض، وخصني الزميل الصحفي محمود مطر بتليفون سعاد في لندن، ولما اتصلت، سمعت رسالة مسجلة تقول فيها سعاد: أنا زوزو النوزو كاونوزو... اترك رسالتك بعد سماع الصفارة، وكانت هذه الرسالة جرس إنذار أشعرني بالفزع على مصير سعاد، فقد بدا لي أن «زوزو» سيطرت على شخصيتها، وأن كل الأخبار الفنية المتعلقة بعودة السندريلا إلى السينما بفيلم جديد، تطلقها زوزو، بينما لم تكن صورة سعاد تسمح لها بذلك، وفكرت أن رحلة العلاج، هي بالأساس رحلة صراع بين الشخصيتين، سعاد قصت شعرها وارتدت الكاجوال واستسلمت للبدانة الناجمة من تعاطي الكورتيزون والأدوية الخاطئة، و«زوزو» تتشبث بصورة وصوت السندريللا، وكما حدث مع جريتا جاربو، وليلى مراد، كان لابد للإنسانة أن تختفي حفاظا على صورة النجمة.
(5)
هذه المأساة جسدتها سعاد على الشاشة في فيلم «بئر الحرمان» المأخوذ عن رواية لإحسان عبدالقدوس، حيث تنشطر شخصية البطلة إلى شخصيتين: «ناهد» الملتزمة، و«ميرفت» المستهترة، ولاشك أن الصراع بين الشخصيتين يتحول مع الوقت إلى صراع إزاحة، كل شخصية تحاول قتل الأخرى أو السيطرة عليها وإخضاعها تماماً، لهذا رجحت في أول مقال بعد فاجعة الرحيل «فرضية الانتحار» على «فرضية الاغتيال»، ولم أقتنع يوما بما أثير عن التصفية الاستخباراتية، أو اتهام وزير الإعلام الأسبق صفوت الشريف بتدبير قتل سعاد بحجة خوفه من كتابة مذكراتها ونشرها في لندن.
(6)
لم يكن لدي دليل يحسم فرضية انتحار سعاد، كما لم يكن هناك دليل عند أنصار نظرية اغتيالها، كلام مقابل كلام، لكن الإثارة تزداد مع لغز الموت الغامض، والحديث عن مؤامرات وشبهات سياسية، بحيث يمكن تضخيم سيناريو التصفية والزج بحوادث شبيهة مثل حادث اللواء الليثي ناصف الذي سقط (أو أُسقط) من نفس العمارة التي كانت تسكنها سعاد في لندن، وكذلك رجل الأعمال والجاسوس اللغز أشرف مروان، وما أثير عن انتحاره أو قتله، أو سقوطه عفوا نتيجة اختلال توازن!، وهكذا انتشر الحديث عن مقتل سعاد باعتباره الواقع الفعلي الذي يدعمه المنطق والكثير من القرائن والأمثلة الشبيهة، بينما توارى حديث الانتحار، خاصة أن أسرة سعاد (شقيقتها بالتحديد) بذلت جهدًا إعلاميًّ كبيرًا لنفي فكرة انتحار سعاد، على اعتبار أن الانتحار يتعارض مع الاعتقاد الديني التقليدي عن مصير المنتحر، ومن غير فهم لتأثير المرض، الذي يجعل الانتحار عرضاً وليس إرادة حرة ينبغي محاسبة مرتكبها.
(7)
بذلت مجهودا كبيرا لتقصي فكرة الانتحار من الناحيتين الدينية والطبية، وقادتني خطوات البحث إلى الدكتور تامر جويلي أستاذ الطب النفسي والمتخصص في دراسة حالات الانتحار، والتقيت به أكثر من مرة في عيادته بجاردن سيتي، وناقشت معه كل ما يتعلق بالدوافع التي تؤدي بالإنسان للانتحار، ومدى مسؤوليته عن ذلك، وعلاقة الصراع النفسي بالمواد الكيميائية في المخ، والتي تجعل من المنتحر مريضاً وليس كافراً يرفض الحياة كقناعة فكرية أو اختيار شخصي، ومرت سنوات حتى فاجأني المخرج محمد خان بمفاجأة لم أتوقعها.
وللحديث بقية