ما الذى من الممكن أن يحث الحكومة وبقوة دفع رباعية لكى تتوجه بكل هذه الشجاعة إلى دعم صناعة الفيلم السينمائى؟ المؤكد أن الرئيس عبدالفتاح السيسى هو الذى طلب من رئيس الوزراء الدخول إلى معترك السينما، دولة لديها ضائقة مالية غير قادرة على السيطرة على الارتفاع الجنونى للدولار، وفى نفس الوقت لا يحظى الفن لديها بأى مكانة سوى أنه صار الشماعة الذى يشار إليه دائما بأنه عنوان التردى، وأن الشاشة بما تقدمه للناس من بلطجة وعنف وتعاطى مخدرات وتحرش جنسى هى السبب الرئيسى لنكبة المجتمع، إلقاء المسؤولية على الشاشة يبعث بشحنات الطمأنينة للمسؤولين، لأن هذا يعنى بما لا يدع مجالا للشك أن الدولة تعمل اللى عليها وزيادة فى ضبط الشارع، ولكن مسلسلات وأفلام محمد رمضان وأخواته هى سر الأزمة، قبل عامين أو أكثر قليلا داعب الرئيس عبدالفتاح السيسى أحمد السقا قائلا كلمته الشهيرة فى الجزيرة الجزء الأول ((من النهارده مفيش حكومة أنا الحكومة أنا الحكومة))، لم تكن مداعبة مجانية من الرئيس، ولكنه أراد أن يقول له إن للفن دورا فى ضبط إيقاع الحياة.
هل الدولة جادة فى دعمها لصناعة السينما؟ من الممكن أن تستشعر ذلك، إلا أن الدولة لديها تصور محدد ومحافظ جدا للدراما تحديدا يضعها فى إطار صارم ينبغى ألا تحيد عنه، وسوف تتشبث به أكثر عندما تُقدم الدعم.
أتصور أن المخرج خالد يوسف لعب دورا محوريا فى الوصول إلى هذه النتائج المبشرة، 50 مليون جنيه سنويا ترصدها الدولة، ما لا يقل عن 10 ملايين جنيه أخرى من تحصيل ضريبة على تذكرة الفيلم الأجنبى توجه مباشرة إلى صندوق السينما المصرية، المزمع إنشاؤه ليصبح هو الجهة التى تتولى الإنفاق على السينما، توجيه حكومى للبنوك بالدخول فى الإنتاج السينمائى ومنح قروض ميسرة للمنتجين بضمان الفيلم نفسه، فلا عقار ولا أرض كما هى شروط البنوك فى منح القروض، ولكن فقط الفيلم هو الضمان، وهو تغيير فى النظرة تعيد الاعتبار لقيمة المنتَج السينمائى.
هل تعتقدون أن الدولة تغيرت فجأة نظرتها للفن، أم أنها ساعة تروح وساعة تيجى، ساعة تشعر بأهميتها فتقرر توجيه دعم لها وساعات تنظر إليها باعتبارها سر فساد المجتمع فلا تطيق حتى أن تسمع مجرد سيرتها.
هل هذه الدولة فعلا تريدها حرية فى التعبير أم أن لديها توجها لنوع محدد من الأفلام ترنو إلى إنتاجه؟ أتصور أنها الثانية، هناك داخل المجتمع صوت قوى يطالب بذلك والرئيس نفسه كثيرا ما يلمح إلى دور الفن الملتزم اجتماعيا، وأعتقد أن هذا هو المسكوت عنه عند إعلان الدولة موافقتها على الدعم، فهى لم تشأ أن تعلنها صريحة مجلجلة نريد فنا على مزاجنا وطبقا لشروطنا، لا أستبعد أن يزايد المخرجون والمنتجون الذين يحلمون بتلك المنحة التى لا ترد فى تقديم كل ما تريده الدولة، عدد كبير من المخرجين والكتاب الذين أصبحوا خارج الخط، دائما ما يتوجهون بهذه الرسائل بين الحين والآخر بضرورة عودة الدولة للإنتاج، مؤكدين أنهم سوف يروجون لمنجزاتها، وأن هذا الجيل الجديد لا يعرف كيف يروج حقا للمشروعات القومية، وهكذا تابعنا أكثر من مخرج يتقدم مباشرة لرئيس الوزراء بأفكار وملخصات أفلام ومسلسلات عن إعادة افتتاح قناة السويس، وبعضهم تقدم بمشروعات درامية عن مخاطر الإدمان وغيرها، الكل يحاول أن يقرأ شفرة النظام ليصل إليه من أقصر الطرق.
هل الدولة تريدها على هذا النحو حتى تضمن السيطرة على الحياة الفنية ومن ثم المجتمع.
كثيرا ما أشار فريد شوقى بفخر واعتزاز إلى تلك الواقعة عندما استدعاه الرئيس جمال عبدالناصر عن طريق المخابرات عندما أراد تخليد انتصارنا فى دحر العدوان الثلاثى فى حرب 56، وبالفعل وضعت الدولة كل إمكانيات القوات المسلحة لتحقيق هدف الرئيس، الفيلم من إنتاج شركة فريد السينمائية، حيث إن الدولة لم تكن قد توجهت بعد إلى الإنتاج السينمائى وأخرج الفيلم عزالدين ذو الفقار، ضابط سابق فى القوات المسلحة، وكان دفعة عبدالناصر وعبدالحكيم عامر وأنور السادات، وهو من أكثر المخرجين موهبة، وشاركت هدى سلطان البطولة وغنت لأول مرة فى حياتها الفنية لإضفاء قدر من الزخم قصيدة، فأنا لا أتذكر أن هدى غنت قبلها أو بعدها بالفصحى، وحقق الفيلم فشلا ذريعا، برغم أن فريد كان هو النجم الشعبى الأول، شىء ما افتقده الفيلم، بينما عندما قدم بعدها بعام واحد المخرج عز الدين ذوالفقار فيلم ((رد قلبى)) عن ثورة يوليو حقق النجاح الضخم المرتقب ولايزال هو عنوان كتاب الثورة.
الدولة فى ساعة صفا أرادت أن تصلح غلطتها فى حق السينما فقررت أن تروح إليها، ولا تضمن أن يعقب ذلك ساعة تيجى، حاليا كل الإشارات خضراء أمام السينمائيين، هل تفتح الدولة الباب أمام كل الأفكار أم أنها ستحدد بالضبط ما تريده، الكرة الآن فى ملعب السينمائيين، هل يضحون بالحرية لو تعارضت مع الدعم؟ أم يستحوذون على الدعم ويلقون من أجل حفنة ملايين بالحرية فى عرض الطريق!!