رحل العالم المصرى الكبير أحمد زويل عن عمر يناهز السبعين عاماً، بعد حياة حافلة بالعطاء العلمى والثقافى، حقق فيها الرجل نجاحات علمية مبهرة، وحصل على جائزة نوبل للسلام، تقديرا لجهوده فى خدمة العلم والإنسانية.
رحلة زويل مع العلم والغرب مسار، ورحلته مع مصر مسار آخر، وهى تعكس حجم المأساة التى تعيشها بلادنا وقدرة نظمنا على «تطفيش» العلماء ومحاربة الكفاءات لصالح روتين وبيروقراطية أجهضت كثيراً من مبادرات النجاح.
زويل هو ابن أسرة متوسطة الحال، ولد فى 26 فبراير 1946، بمدينة دمنهور، وانتقل مع أسرته إلى مدينة دسوق بمحافظة كفر الشيخ، وأتم تعليمه الأساسى فى المدارس الحكومية المصرية، والتحق بكلية العلوم بجامعة الإسكندرية، وحصل على بكالوريوس العلوم بامتياز مع مرتبة الشرف فى عام 1967.
سافر زويل إلى أمريكا فى منحة دراسية وحصل على درجة الدكتوراة من جامعة بنسلفانيا فى علوم الليزر، ثم عمل فى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا «كالتك»، وهو من أكبر المعاهد العلمية والجامعية فى العالم، وابتكر نظام تصوير سريعا للغاية يعمل باستخدام الليزر، عرف باسم «فيمتو ثانية»، وهو جزء من مليون مليار جزء من الثانية.
نشر الرجل أكثر من 350 بحثاً علمياً فى المجلات العلمية العالمية، كما ورد اسمه فى قائمة الشرف بالولايات المتحدة باعتباره واحدا من أهم 29 شخصية ساهمت فى النهضة الأمريكية، كما حصل على جائزة نوبل مرتين، الأولى فى الكيمياء والثانية فى السلام العالمى.
ورغم حصول زويل على الجنسية الأمريكية فى عام 1982 إلا أنه ظل مرتبطا بمصر ومشاكلها، ولم تأت فرصة إلا وأشاد بها بفترة حكم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر وبالفرص التى أتاحها من خلال سياسة التعليم المجانى، الذى كان تعليما جيدا فى المدارس والجامعات العامة قبل أن يكون مجانيا.
وعاد زويل إلى مصر فى بدايات العقد الماضى، وبدأ يتحسس طريقه من أجل أن ينفذ مشروعه لبناء جامعة تخرج باحثين وعلماء وليس موظفين فى ثوب جامعيين أو باحثين، وقوبل الأمر فى البداية بالترحاب من قبل نظام مبارك، ولكنه سرعان ما تعثر، واكتفى النظام بالسماح له بالحضور كضيف شرف على أفراح النخبة المصرية أو الحديث فى بعض المنتديات والمؤتمرات، وحين ردد البعض اسمه كرئيس جمهورية محتمل استبعد تماما من حضور الندوات واللقاءات التليفزيونية التى اعتاد أن يتحدث فيها لسنوات.
والحقيقة أن مشروع زويل السياسى أو الرئاسى لم يكن مشروعا صائبا، وربما ترديد هذه الفكرة جاء عقب تعثر مشروعه العلمى، فقد دفع البعض الرجل للحديث فى كل شىء إلا مشروعه العلمى، فتكلم عن أمريكا وعن سنوات صباه وعن مدرسته وجامعته، وتكلم فى السياسة والاقتصاد، ونسوا جميعا أو تناسوا أن الرجل جاء إلى مصر منذ أكثر من 10 سنوات لكى يبنى صرحا علميا وأكاديميا كبيرا، وأن هذا الصرح لم ير النور، واكتفوا بدعوته فى الأفراح والليالى الملاح، أو فى دار الأوبرا، وقتل مشروعه العلمى الأساسى.
وقامت ثورة يناير، وتصور زويل مرة أخرى أنه يمكن إحياء مشروعه العلمى المعطل، ولكنه فوجئ بنفس العقبات البيروقراطية وثقافة كراهية العلم، وفى أحيان كثيرة السخرية من العلماء لصالح الفهلوة والكلام الفارغ والخرافة، وتعطل مشروعه ولم ير النور.
وأذكر أن البرلمان دعاه للحضور فى 2012 للحديث عن عصر العلم، وتكلم الرجل كثيرا عن همومه وطموحاته العلمية، وعن المشاكل الذى يواجهها مع جامعة النيل (قبل أن تحل بفصلها عن مشروعه العملاق: مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا)، وفجأة ترك أحد النواب كل ما تحدث فيه، وسأله عن سبب تبرعه بقيمة جائزة نوبل (أو جانب منها) لإسرائيل؟! وهنا أسقط فى يد الرجل وصدم من السؤال، فهو ليس فقط سؤال كاذب ومختلق، ولكنه أيضا أحبط الرجل إحباطا شديدا وأشعره بأن ما يقوله لا قيمة له وأن هناك (ولو البعض وليس الكل) منشغل بترديد شائعة مضحكة لا يمكن لعاقل أن يصدقها.
تعثر مشروع زويل للمرة الثانية طوال الفترة الانتقالية التى أعقبت ثورة يناير وحتى نهاية حكم الإخوان، إلى أن تحول مشروعه إلى حقيقة عقب فك الاشتباك مع جامعة النيل، وشيدت مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا بمدينة 6 أكتوبر، واكتمل المبنى تقريبا، ويفترض أن يستقبل طلابه الجدد لأول مرة مع بداية العام الدراسى الجديد، ومن مفارقات القدر أن صاحبه وملهمه قد رحل عن الدنيا قبل أقل من شهرين على افتتاحه.
مدينة زويل مشروع تأخر على الأقل 10 سنوات ضاعت من عمر الشعب المصرى ومن عمر أجيال كانت ستتخرج فى هذا الصرح وهى تعرف أن طريق النجاح هو العلم والجدية والابتكار، وليس الفهلوة والتلقين والهتاف، وهو فى عمر الشعوب فرصة ضائعة لا يجب أن تتكرر.
أتمنى أن نحافظ على «وديعة زويل» وننميها، فالرجل قد رحل بجسده وكل من عرقلوا مشروعه، إما غيرة أو كراهية فى أى نجاح، عليهم أن يصمتوا قليلا حتى يمكن أن تبدأ مدينة زويل كنقطة مضيئة وصرح نجاح قد يدفع ولو جانباً من جامعاتنا إلى أن تحذو حذوها.