الذين لا يذكرون- وربما لا يعرفون- حشرة البق، خاصة من الأجيال الجديدة، نقول: تصوروا حبة واحدة من العدس الأسود (أبى جبة) وقد انفلقت إلى نصفين.. حينئذ، فإن كل نصف منهما هو تقريبا بقة كاملة فيما عدا الرأس والأرجل!!..
قبل ثلاثين عاما تقريبا، كان البق فى مقدمة الأسباب التى تؤدى إلى حرماننا من النوم، وكان له فى ذلك الأسبقية على المشكلات العاطفية والمالية وبقية المشكلات الأخرى التى كثيرا ما تجعل النوم يجافى جفوننا!، تلك المشاكل التى إذا وضعناها جميعا فى هذا الخصوص فى كفة ووضعنا البق فى كفة أخرى لرجحت كفة البق بلا جدال!! فالبق يتغذى على دم الإنسان، والبقة الواحدة لكى تيسر على نفسها عملية التغذى تقوم بإفراز مادة مهيجة على الجلد تدفع المرء إلى الهرش، حيث يظل المرء يهرش إلى أن يقترب الجلد من الاهتراء، حينئذ يسهل عليها أن تدخل خرطومها الماص إلى دمه وتَعبُّ منه عبّاً!!..
وشيئا فشيئا ينتفخ بطنها ويزداد حجمها، وبعد أن كانت توازى نصف حبة عدس إذا بها تصبح موازية لنصف حبة حمّص! وإذا بلونها يتغير من البنى الداكن إلى اللون العسلى الناتج من امتزاج دمائنا بعصارتها الهضمية!!..
لم تكن مقاومة البق فى زماننا عملية سهلة على الإطلاق، فقد كان يثبت دائما صموداً عجيباً فى مواجهة كل الأساليب التى كنا نتبعها فى محاولتنا للقضاء عليه... بدءا من التنقية اليدوية باستخدام كرة من العجين تلتقط بها البق من أماكن اختبائه، مروراً بنشر المفروشات فى الشمس وسكب الكيروسين أو المبيدات على ثنيات الأسرة وألواح الخشب، وانتهاءً بالرش الشامل للغرف بأقوى أنواع المبيدات!!...
وربما كان هذا كله يفلح أحيانا فى تخفيف وطأة هجومه علينا يوما أو يومين، لكنه سرعان ما كان يعيد تنظيم صفوفه ويعاود الزحف والهجوم أقوى مما كان!!.. شر أنواع البق وأخبثه هو الذى كان يختبئ فى الأسقف.. وقد كانت البقة من هذا النوع الخبيث تلقى بنفسها من السقف كأنها جندى مظلات متجه بدقة شديدة إلى وجهته المقصودة.. قفا سيادتك!.. حيث يختبئ فى المساحة الواقعة بين ياقة البيجامة والفانلة أو بين الفانلة والرقبة، عفوا: أقصد القفا، الذى يستهدفه دائما وكأنه يدرك أن بحثك بيدك عن مكمنه فى القفا أشد عسرا من الصدر!!..
المشكلة الحقيقية هى عندما كانت تتعدد مواضع الهجوم، أو بعبارة أدق جبهات المواجهة بالهرش، حينما يهاجمك عدد من حشرات البق فى وقت واحد متزامن فى مواضع مختلفة من جسدك، فيرغمك إرغاما على أن تفتح أكثر من جبهة فى نفس اللحظة !!..
فجأة، منذ ثلاثين عاما تقريبا، وبدون مقدمات أو أسباب واضحة لنا.. بدأ البق يتقلص شيئا فشيئا إلى أن اختفى تماما (وقد تزامن اختفاؤه مع اختفاء طائر الحدأة التى ربما أفردنا للحديث عنها مقالا مستقلا).. البعض يفسرون اختفاء البق بالتوسع فى استخدام المبيدات وتطور نوعياتها، وبارتفاع مستوى النظافة فى البيت المصرى، لكن استخدام المبيدات كان كثيفا أثناء فترة انتشار البق ولم يفلح فى صدّه، أما ارتفاع مستوى النظافة فهى مقولة غير مؤكدة، وربما كان العكس هو الصحيح، ومع هذا فإذا سلمنا بهذا التفسير يبقى السؤال: لماذا بقيت حشرات أخرى كالبراغيث؟؟.. ولماذا اختفى طائر الحدأة فى نفس التوقيت؟ هل هى محض مصادفة، أم أن المبيدات كما يذهب أنصار هذا الرأى هى السبب المشترك؟، لماذا إذن بقى طائر الغراب، بل تكاثرت أعداده تكاثرا رهيبا، بحيث لم نعد نقلب عيوننا فى أى اتجاه إلا ونرى فيه غرابا؟!