لماذا تحن شريحة هائلة من المصريين الآن إلى العصر الملكى، رغم مرور 63 عاماً على إلغاء الملكية، فى 18 يونيو 1953، وإنهاء حكم أسرة محمد على، الذى بدأ عام 1805؟ هل السبب ما يعانيه كل المصريين من عذابات واختلافات منذ يناير 2011، أم السبب عدم الاستقرار الأمنى، واستنزاف ثرواتنا بسبب محاربتنا للإرهاب الداخلى.. والضغوط الخارجية.. أم السبب يكمن فى الحالة السيئة التى وصلنا إليها، فى كل المجالات، ونقص الخدمات وظهور العشوائيات.. والانهيار الأخلاقى الذى يعيشه الناس الآن؟ وما يجرى من تبادل الألفاظ النابية، والسلوكيات المنحطة فى كل الأعمال الفنية ما هو إلا تعبير عما هو موجود فى المجتمع بالفعل.
أم أن السبب أننا لم نعد نأكل مما نزرع.. ونلبس مما نصنع.. وننعم بوفرة «معقولة» فى معظم السلع؟.. وأن خير تأكيد لما نقول أننا أصبحنا نستورد بما يزيد على 80 مليار دولار.. بينما لا نصدر إلا بحوالى 22 ملياراً.. وأن الانهيار الاقتصادى وصل إلى حد أننا نستورد حتى فول التدميس والعدس والثوم، أما الزيت فنستورد منه 90٪ مما نستخدم.. واختفت تقريباً عبارة «صنع فى مصر» التى كنا نفخر بها فى المحلة وكفر الدوار والإسكندرية ودمياط.
وأعترف: ما من مرة ركبت سيارة تاكسى إلا وفاجأنى سائقها بقوله «قل لى - والنبى يا بيه - هل مصر زمان كانت أحسن؟»، ثم يفاجئنى بالسؤال الثانى - قبل أن أجيب عن الأول - هل ظلمنا الملك فاروق.. وأسأنا إليه هو وأسرته؟ ويفاجئنى بالثالث: هل كان التعليم زمان أفضل مما هو الآن؟ والسؤال الرابع: هل فعلاً كانت المستشفيات الأميرية - أى الحكومية - تقدم كل شىء للمريض.. علاجاً وطعاماً ودواءً.. حتى العمليات الجراحية؟.. وسيل طويل من الأسئلة ليس لأنه تعرف علىَّ.. ولكن لأنه لاحظ أننى كبير السن، وبالتالى عشت بعضاً من هذا العصر الملكى.
ولكن الحقيقة التى توصلت إليها أن هناك حنيناً كبيراً للماضى كله.. بكل ما كان فيه.. ملكياً مطلقاً.. أو ملكياً دستورياً.. وكان فيه الملك يملك ولا يحكم.. وحتى إن تدخل - وكان هذا يحدث عندما تكون الحكومة ضعيفة، أو من رجال الملك - فإن البرلمان كان يملك القدرة على أن يقول لا.. للملك، حتى ولو كان يريد أن يحصل على قرض من الحكومة.
ولكننى أعترف هنا بأن شعوراً كبيراً بات موجوداً داخل وجدان الشعب يقول: إن العهد الناصرى نجح إلى حد رهيب فى الإساءة إلى العصر الملكى.. ومن الأيام الأولى لثورة يوليو 1952، ويؤكد هذا الظلم ما أصدرته هذه الثورة من كتب تعمدت الإساءة لكل ما كان قبل يوليو 1952، فهذا هو كتاب أحمد بهاء الدين - وكان كاتباً عقلانياً هادئاً - اسمه «فاروق ملكاً».. صدر بعد أقل من شهر من قيام الثورة، وكتاب «ملك وشعب»، تأليف زكريا الحجاوى، صدر فى نفس التاريخ.. وكذلك كتاب «هكذا تحكم مصر» من تأليف على أمين.. وقولوا لى كيف يمكن لأى كاتب أن يعد كتاباً بهذا الشكل، فى هذا الوقت القليل؟!
نعم كانت هناك أخطاء رهيبة فى الحكم، حتى إن مصر شهدت أربع حكومات فى أقل من ستة أشهر من إقالة حكومة النحاس، فجر 27 يناير 1952، وإلى 23 يوليو 1952، هى حكومات على ماهر «27 يناير - أول مارس 1952»، وأحمد نجيب الهلالى «أول مارس - 2 يوليو 1952»، وحكومة حسين سرى «2 يوليو - 22 يوليو 1952»، ثم حكومة أحمد نجيب الهلالى الثانية «من 22 إلى 24 يوليو» وإلا اعتبرنا أن تعدد الوزارات منذ يناير 2011 مظهر للتفكك والفساد.
** ولكن للحقيقة كان الشعب يغلى قبل يوليو، وربما منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ثم حرب فلسطين الأولى عام 1948، وكان الفساد قد استشرى.. والأحزاب معظمها كان يتصارع على مقاعد الحكم.. ولكن على الأقل كانت هناك دولة.. وفى كثير من السنوات كان الميزان التجارى لصالح مصر، وكانت هناك عمليات جادة لإعادة بناء الوطن.. وأن المظاهرات كانت تعم البلاد.. وإذا كان بعضها يطالب الإنجليز بالجلاء عن منطقة قناة السويس.. إلا أن أكثرها كان ضد الفساد.. وبالذات منذ هربت الملكة نازلى ومعها بناتها إلى أمريكا، وعاشت «على حل شعرها» هناك، حتى إننا ونحن طلبة كنا نهتف فى هذه المظاهرات «من لا يحكم أُمه.. لا يحكم أمة»، و«على أمريكا يا ابن ماريكا»، و«على قولة يا ابن....»، وحتى عندما أنجبت الملكة ناريمان «الزوجة الثانية لفاروق» ابنه وولى عهده أحمد فؤاد الثانى خرجت المظاهرات تهتف ضد الأب وضد الابن معاً بألفاظ جارحة.
** كان كل ذلك موجوداً بفضل حرية الصحافة التى تمتعت بها مصر تحت حكم هذه الأسرة العلوية، ولكن من قال إن العصر الملكى كان كله فاسداً.. أقول ذلك لأنه كان بين هذه الأسرة حكام عظام.. ربما بسببهم يحن قطاع كبير من المصريين إلى هذا العصر.. وغداً نواصل.