جاءت زيارة السيد سامح شكرى، وزير الخارجية، لإسرائيل فى أعقاب جولة بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلى الأفريقية، لتؤكد الأنباء المسبقة التى تحدثت عن وساطة إسرائيلية مع دول حوض النيل بشأن مصر، وهو الأمر الذى ما كُنا نود أن نسمعه، ولا نراه، ولا أن يأتى أبداً ذلك اليوم الذى نتسول فيه وساطة إسرائيل فى القارة الأفريقية التى لا تنتمى إليها جغرافياً، ليس ذلك فقط، بل إنها كانت منطقة النفوذ المصرى الكبير ذات يوم.
إسرائيل لن تقوم بهذا الدور أبداً دون مقابل، هى تحلم بمياه النيل منذ وجودها على أرض فلسطين عام ١٩٤٨، تسعى إلى ذلك منذ توقيع اتفاقية السلام مع مصر عام ١٩٧٩، بالتأكيد ذلك التطور فى العلاقات مع الكيان الصهيونى لن يكون أبداً بمعزل عن القضية الفلسطينية أو القضايا العربية عموماً، سوف يكون على حساب كل القيم والمبادئ التى نشأنا عليها، على حساب القومية العربية، على حساب الدم الفلسطينى الذى يُستباح بصفة يومية، على حساب الأرض المحتلة، على حساب القدس الشريف والأقصى الأسير، على حساب دمائنا، على حساب شهدائنا، على حساب أسرانا.
حتى الحصول على مياه النيل سوف يكون من حصتنا التى تراجعت أساساً، وسوف تستمر فى التراجع، آمل ألا نُفاجأ على غرار ما حدث للجزيرتين المصريتين «تيران وصنافير» باتفاقيات ما، أو تنازلات فى هذا الشأن، بدعوى الحرص على السرية، حتى لا يفشل الاتفاق، أو بدعوى الخوف من أهل الشر، آمل ألا يكون هناك تطبيع من نوع ما مع إسرائيل أكثر من ذلك المتعارف عليه، آمل ألا تتغير مناهج الدراسة العام المقبل فيما يتعلق بتاريخ إنشائها، أو ما يتعلق بالعدوان على الأراضى العربية عموماً.
بدا واضحاً أيها السادة أننا أهل الشر، ولا أحد غيرنا، نحن الذين نتنازل، ونحن الذين نُفرِّط، ونحن الذين نخدع شعوبنا، بدا مؤكداً أن أجندة التنازلات متخمة، كما أجندة إعادة رسم خريطة المنطقة تماماً، بدا واضحاً أن المخطط أكبر مما يتصوره عقل، بدا أنه مخطط الشرق الأوسط الجديد، ما قبل الفوضى الخلاقة، وما قبل ٢٥ يناير، بالفعل الأمر بالنسبة لمصر كان مختلفاً، السيناريو يسير بخطى واثقة، الشعوب مُغيَّبة، والمفاجآت مستمرة.
إذا كان الأمر كذلك، فإن السؤال الذى يطرح نفسه بقوة هو: لماذا كل هذا التسلُّح؟، ولماذا كل هذا الإنفاق على التسلُّح؟، هل هناك أعداء جدد لا نعلم عنهم شيئاً؟، متى وكيف تغيرت بوصلة العقيدة المصرية؟، الدهشة بدأت منذ أن انتصرنا لإسرائيل فى الأمم المتحدة بمنحها صوت مصر، الدهشة كانت منذ إزاحة الستار عن لقاءات إسرائيلية خليجية بمباركة مصرية، الغرابة كانت منذ ذلك التنسيق الأمنى فى سيناء، وتقارب المواقف بشأن غزة.
كل ذلك يبدو أنه كان بمثابة عملية تسخين قبل المشاركة فى المباراة، أو عمليات إحماء ليس أكثر قبل النزول إلى أرض الملعب، الأهم والأخطر فيما هو قادم، تسجيل الأهداف لم يبدأ بعد، من الخطأ أن يتصور البعض أن الجمهور سوف يصفق لهذا الهدف أو ذاك، جميعها من تسلل واضح، جميعها افتقدت الأخلاق واحترام مشاعر الجمهور، لم يكن هناك أى اعتبار لتلك الجماهير الغفيرة، لم يكن هناك اعتبار لسنوات طويلة من المعاناة، والضرائب المختلفة، من دماء وشهداء وأموال.
الغريب هو ذلك الموقف العربى المتكالب على الدولة الصهيونية الآن، هُم نفس العرب الذين قطعوا علاقاتهم بمصر يوماً ما، نتيجة توقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل، هم نفس العرب الذين قاطعونا تسع سنوات تجارياً، واقتصادياً، وسياسياً، هم نفس العرب الذين اتهموا الرئيس الراحل أنور السادات بالخيانة، واستمر الوضع كذلك حتى عام ١٩٨٨، مع جولة الرئيس مبارك الخليجية، بضغوط من الرئيس العراقى الراحل صدام حسين، نتيجة احتياجه لمصر فى حربها مع إيران.
أعتقد أن شيئاً لم يتغير على أرض الواقع، الحكام العرب هم الذين تغيَّروا وتبدَّلوا، الأرض المحتلة مازالت محتلة، آلاف المعتقلين الفلسطينيين فى السجون الإسرائيلية، حديث رئيس الوزراء الإسرائيلى لا يتوقف عن ضم هذه الأرض المحتلة أو تلك، حديث وزير دفاعه مستمر حول قائمة القتل والاغتيالات، هل جاء اليوم الذى سوف تتحسر فيه الشعوب العربية على حكامها السابقين؟، هل انتهت عقيدة العروبة والقومية إلى الأبد؟، هل أصبحت الدماء العربية من الماضى مثلما الشهداء تماماً؟، هل أصبحت إسرائيل فجأة، وبدون مقدمات، طيِّبة وديعة بين ليلة وضحاها، وقد تنازلت عن عقيدتها السياسية والدينية «من النيل إلى الفرات»؟.
إذا كان الأمر كذلك، فأهلاً بإسرائيل عضواً عاملاً فى جامعة الدول العربية، وليس مراقباً فقط، لتحصل على المياه، وعلى النفط، وعلى الغاز، وعلى أصواتنا فى التجمعات الدولية، لتحصل على كل ما تريد، إلا أن كل ذلك يجب أن يكون من خلال إرادة شعبية، عملية الوصاية هذه زادت عن الحد الذى يمكن أن يكون مقبولاً، تجاهل إرادة الشعوب لا يمكن قبولها إلى هذا الحد بعد أن ارتبطت بعقيدة واضحة ما يقارب السبعة عقود.
أتصور أن أى محاولات لفرض إسرائيل على الساحة المصرية، أو حتى العربية، كان يجب أن يقابلها بالتوازى تسوية للنزاع العربى الإسرائيلى، ممثلاً فى الانسحاب من الأراضى المحتلة، فى فلسطين وسوريا، والإفراج عن الأسرى والمعتقلين، وتعويض المُهجَّرين وذوى الشهداء، وغير ذلك من قضايا مُعلقة، أعتقد أنها لا يمكن أن تغيب عن أى مسؤول مصرى أو عربى، إلا إذا كان ذلك ضمن قائمة الإملاءات الخارجية، المتعلقة بتلك الخرائط الجديدة للمنطقة.