الترويج للثقافة الشعبية المتدنية لنشر البلطجة وأخذ الحق والثأر بالذراع بدلا من الاعتماد على حبال القانون التالفة، أبرز ما أظهرته الدراما الرمضانية، خاصة مسلسل «الأسطورة»، ويبدو أن النتائج أعلنت عن نفسها وبسرعة، من خلال زف مواطن بصعيد مصر بنفس الأسلوب الذى اتبعه بطل المسلسل، وانتقاما من صاحب محل هواتف محمولة، حيث قام أهالى فتاة انتقم منها زوجها بنشر صور لها على الإنترنت بإجباره على ارتداء ملابس نوم نسائية والسخرية منه فى نهار رمضان وأمام أهالى القرية ودعوة المواطنين لتصوير المشهد بالموبايلات، كما انتشرت صور البطل باللوك على تيشيرتات تحمل اسمه وصورته فى مختلف المحال ليصبح فتى الشاشة الأول.. يا لسخرية القدر!
لست هنا فى موضع انتقاد الفنان محمد رمضان نجم العمل، فأنا أذكر تكريم المجلس القومى لحقوق الإنسان له فى 2012 بعد مشاركته فى مسلسل دوران شبرا، والدور الجيد الذى قام به، ودور المسلسل فى التوعية بحقوق الإنسان، وإنما أنتقد الترويج لشخصية البلطجى ودعمه فى الحصول على حقوقه بعيدا عن القانون، ويدهشنى أن يكون من أكثر المسلسلات متابعة فى الشهر الكريم من بين أكثر من 30 مسلسلا.
والمتابع لهذا المسلسل أو غيره سيجد تنامياً لظهور شخصية البلطجى وتاجر المخدرات وتاجر السلاح والسيدة الخائنة واللعوب والقاتلة والجاحدة... إلخ، فهل هذه مصر؟ هل هذه هى الصورة التى تصدرها الدراما عن المجتمع المصرى؟!
فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى كانت السينما المصرية تقدم أعمالاً فنية إبداعية رائعة مأخوذة عن قصص وروايات لأبرز المثقفين والأدباء المصريين والعرب، وقدمت أيضا أعمالا درامية جيدة فى الثمانينيات والتسعينيات، وإن كانت قد ركزت على قضايا مجتمعية ومشكلات الإرهاب، وأبدع البعض منهم فى استقراء المستقبل، وتوقع ما يحدث من سيناريوهات من قِبَل الجماعات السياسية والدينية، والتحذير من مخاطر الإرهاب على المجتمع، والقيود المفروضة على حرية الرأى والتعبير والإبداع، فى حين قلت هذه الأعمال الإبداعية، واكتفى البعض بكتابة سيناريوهات وأعمال درامية مأخوذة من محاضر الشرطة أو قضايا منظورة أمام القضاء، فى إفلاس علنى مخجل.
للأسف.. يبدو أننا فى حالة صراع مجتمعى حاد، وهناك فئات تستغل تراجع دور الدولة فى الاهتمام بالفنون والإبداع فى إنتاج مثل هذه الأعمال لتحقيق أرباح اقتصادية كبيرة، خاصة أن زيادة شعبية مثل هذه الأعمال المنفلتة تأتى لأنها تجذب شرائح مهمة فى المجتمع، منهم المحبطون والمهمشون الذين لا يشعرون بأهميتهم، ويُنفسون عن غضبهم فى مشاهدة هذا المسلسل وغيره، لأن البطل ضد الدولة ويحصل على الأموال ويأخذ حقه بذراعه، ويزداد ثراؤه ويتزوج بأكثر من فتاة ويستغل أمواله فى ملاحقة معارضيه وتصفيتهم واحداً تلو الآخر.
مقارنة هذا المسلسل بالأفلام السينمائية الأخيرة لا تختلف كثيرا، فالتركيبة الفنية واحدة، والأبطال ربما يكونون متشابهين، والنتيجة أعمال فنية ساذجة وهشة ولا تقدم أى إبداع، بالعكس تقدم مزيدا من الإسفاف والكلمات المبتذلة، وبتحليل مضمون هذا المسلسل وحده سنجد كلمات مبتذلة وغير لائقة، فمثلا كلمة «شمال» تكررت كثيرا، وهى ما تمثله من كلمة سيئة السمعة فى الأوساط الشعبية، وكأن المسلسل يريد بالمجتمع أن يسير فى الاتجاه الخاطئ فى غيبة الرقابة التى تكون كالأسد المفترس فى حذف كلمات ومشاهد لها إيحاءات سياسية، بينما تصبح الرقابة نعامة مع الكلمات ذات الإيحاءات الجنسية أو الإجرامية.
يؤسفنى أن أجد مثل هذه الأعمال المبتذلة دون أن يكون للدولة دور واضح فى مواجهتها، خاصة أن أبطال هذه الأعمال يتفوقون حاليا على نظرائهم الذين قدموا الكثير من الأعمال الهادفة، ليصبح الشباك هو الفيصل فى تحديد الأجور والمكافآت وليس جودة العمل ودوره، فهناك أرقام فلكية تم الكشف عنها حصل عليها أبطال هذا العمل المبتذل والساذج، فهل من توضيح؟!
مصر التى كانت منارة للعلم والفن والإبداع، ومنها انتقلت الدراما المصرية وغَزَت منازل إخوتنا العرب، أصبحت تصدر الفن الهابط والمبتذل والإجرامى فى غيبة من القانون والدولة، وللأسف سيدفع المجتمع الكثير نتيجة الترويج لهذه الثقافة، التى وإن كانت موجودة فى الواقع إلا أن تخليدها وتغذيتها بهذه الأفكار يزيدانها ثباتا وترسيخا وإزعاجا.. وإجراما أيضا.
برلمانية سابقة وأستاذة العلوم السياسية