تكبيرات صلاة العيد لها مذاق مختلف. وهى جزء من الطقوس التى استخدمها الإسلام فى تكريس شعور المسلم بالانفصال عن مجتمعه الجاهلى القديم وإشعاره بالتميز والمفاصلة. فهناك الوضوء قبل الصلاة التى تجعلك تستعد روحيا للقاء مميز. وهناك الآذان الذى يتكرر بكلمات محددة كل صلاة. وهناك صيام شهر محدد كل سنة.
■ ■ ■
لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، مكانة عظيمة فى قلب كل مسلم، نابعة من عظمة من أرسله. ليس الملوك والرؤساء فحسب هم وحدهم من تتفاوت مكانتهم، وإنما رسلهم أيضا. تُفتح الأبواب لسفير الولايات المتحدة بأسرع بكثير مما تفتح الأبواب لسفير دولة فقيرة ومتخلفة مثلا. فما بالنا برسول رب العالمين!
ويكفى أيضا أن الخالق العليم بقلوب عباده قد اختار قلبه الشريف وعاء لتلقى كلام الله العظيم. ويكفى أيضا أن الله أحبه، والقارئ السطحى لآيات القرآن يدرك على الفور كم أحب الله محمدا! والقرآن ما هو ببساطة إلا خطاب الله العظيم إلى حبيبه محمد! وكم يبدو فى الألفاظ القرآنية من التقدير الإلهى لرسوله الذى وصفه بأنه على خلق عظيم. ليس هذا فحسب، وإنما أيضا روح المحبة التى تسرى بين الكلمات، يغضب لغضبه ويرضى لرضاه.
■ ■ ■
لكن هناك جانب آخر لشخصية النبى- بمعزل عن النبوة المقدسة- وهى الزعامة الملهمة. يعترف بها المسلم وغير المسلم. لقد ظل حتى سن الثالثة والخمسين وهو بلا أنصار تقريبا. القبائل تلفظه وتأبى نصرته. قومه يحاربونه. أتباعه القليلون غير قادرين على حمايته، بل يقع عليه عبء مواساتهم وتحفيزهم.
ومع ذلك انجلت عبقريته فى أقل من عشرة أعوام منذ الهجرة، حيث استطاع أن يؤسس دولة تقوم لآلاف السنين بعده. كيف استطاع أن يفعلها؟ هذا يحتاج إلى تأمل عميق. لقد فشا الإسلام بين سكان يثرب ولكنهم فى الأصل قوم بلا بأس شديد. وبالتأكيد لم يحدث من قبل أن بسطوا نفوذهم فى محيط الجزيرة العربية. بل إن عوامل الانقسام كانت قائمة فيما بينهم. الأوس والخزرج. واليهود من جهة أخرى. فاستطاع سيدنا محمد أن يقنع الأنصار بالطاعة ويجيشهم روحيا، حتى صاروا أطوع له من بنانه. مع توثيق الصلات بينه وبين الشخصيات المؤثرة باستمالتها عن طريق النسب بالزواج (ومن ضمنهم كسر عداوة أبى سفيان بالزواج من ابنته). ثم حاول أن يكتسب اليهود بالمعاهدة والمعاملة الحسنة. لكن التناقض بين المشروعين الإسلامى الوليد واليهودى القديم كان حتميا. واستطاع فى نهاية الأمر بعد الحصول على مبرر أخلاقى للحرب بنكث اليهود للعهود وتعريضهم مجتمع المدينة للخطر الوجودى أن يغزوهم ويبث فيهم الرعب، ويحكم فيهم السيف ويجلوهم من المدينة.
ثم هو يصمد لقريش التى تفوقه عدة وعتادا، فيهزمهم فى معارك ويصمد للهزيمة فى أحد. ويغلب الحكمة السياسية على المواجهة العسكرية فى صلح الحديبية، ويتفرغ لدعوة القبائل العربية المبثوثة فى صحراء العرب. يستخدم السيف فى موضع الحزم ويستخدم اللين فى موقع اللين. فإذا تم له ذلك، ووجد المبرر الأخلاقى لغزو قريش– بعد نكثها العهد- فتح مكة دون مقاومة. إذ تبين أن أعداد المنضمين للدين الجديد قد تضاعف عشرات المرات فى عام الهدنة.
■ ■ ■
والخلاصة أن المتأمل المحايد لسيرة سيدنا محمد، عليه الصلاة والسلام، بصرف النظر عن إيمانه بنبوته، يدرك على الفور أنه أمام زعامة روحية وعبقرية سياسية قادرة على إنفاذ مشروعها ببراعة يندر أن يوجد لها مثيل بين أحاد البشرية المعدودين.