«يا ليلة العيد أنستينا
وجددت الأمل فينا
هلالك هل لعينينا
فرحنا له وغنينا».
كنت أنتظر سماع تلك الكلمات بصوت أم كلثوم لأتأكد أن غدا العيد، ما إن يتم إعلان رؤية الهلال حتى يدب النشاط فى البيت، كان هناك دائما أشياء تتركها أمى لآخر لحظة، العيد كان دائما يفاجئها!.
فى ليلة العيد كانت أمى تنزع الأغطية عن مقاعد حجرة الصالون والجلوس، ويتم فرش السجاد المغسول وتركيب الستائر التى تم تنظيفها أيضا، كانت أمى تستعين سنويا بأستورجى لتلميع الأثاث قبل العيد مباشرة، ليصبح المنزل فى أجمل وأبهى صورة.
كانت تحتفظ بكعك العيد الذى تفوح منه رائحة السمن البلدى فى قدور كبيرة مرشوش عليه السكر البودرة فى حجرة للخزين، هذه الكميات لم تكن لاستهلاكنا ولكن جزءا منها كانت ترسله هدايا لأقاربنا، وأتذكر المرات القليلة التى كان به عيب صنعة، وكيف كانت أمى تتنصل من هذه العيوب، وتردها لأسباب تتعلق بالدقيق الذى يطرد السمن أو حرارة الفرن غير المناسبة، فالكعك يجب أن يكون ناعما يذوب فى الفم، لم أكن يوما من محبى الكعك وإخوته، لكن من عشاق بسكوت النشادر، وكنت أطلبه بنيا، كانت ذائقتى تختلف عن باقى الأسرة التى كانت تجده محمصا وناشفا وغير مستساغ.
كعك العيد كانت له طقوسه، فقبل صناعته بأيام: كنت أشم رائحة الزبد وهو يسيح على نار هادئة، ومشهد فتحية، الخادمة التى كانت تساعد أمى فى الأعمال المنزلية، أمام قدر كبير وبيدها مِغْرَفة ضخمة تحركها حركة دائرية طوال وجودها أمام النار وبدون كلل، كان يتم تحضير الصيجان الصغيرة ودهنها بالسمن، كان «الأوفيس» الملحق بالمطبخ يتحول لحجرة عمليات.
بالنسبة للخرق، كنت أطلب من أمى أن أرتدى جديدا فى جديد، حتى شريط شعرى الذى كانت أمى تستخدمه فى جدل ضفائرى ومنديل الجيب اليدوى الصنع بحوافه المصنوعة من الدانتيل الرقيقة والورود الدقيقة، وكانت أمى أحيانا تطلب من صانعيه استبدال الوردات المشغولة بأول حرف من اسمى بالإنجليزية، ومازلت حتى الآن حريصة على ارتداء جديد فى العيد كما كان يفعل أبى رحمه الله، ولو كانت مجرد جوارب.
أول أيام العيد لم نكن نخرج من منزلنا، كنا نستقبل الزائرين من أقاربنا، وكان أبى حريصا على رد الزيارة، زيارات سريعة خاطفة وكأنها رسائل SMS للمعايدة، لكنها كان لها أثر كبير فى نفسى، كنت أشعر بلمة العيلة الكبيرة وارتباطهم، كان التليفون الأرضى لا يتوقف عن الرنين، كان أبى يجلس بجواره طوال الفترة الصباحية ليرد على مكالمات المعايدة وأيضا ليكلم الأقارب والأصدقاء.
ثانى يوم العيد كانت أمى تصحبنى فى الزيارات العائلية التى نبدؤها بجدتى التى كانت تعيش فى البيت الكبير مع خالى، كانت منازل الأقارب تتجاور فى حلوان حيث كنا نعيش، كنا نركب حنطور عم محمود فى العودة، كانت الجولة ترهقنى بدنيا ولكن تسعدنى نفسيا.
عيد الفطر كان يأتى ومعه الخير الوفير بالنسبة لى، كنت أتلقى العيديات من الجميع لأننى أصغر أفراد العيلة، أوراق نقدية جديدة من فئة 25 و50 قرشا وجنيه، وكنت أحتفظ بها فى محفظة فى درج مكتبى، كان هناك دائما ما أدخر لشرائه بالعيدية، الآن العيدية مهما كانت قيمتها ينفقها الأولاد على فواتير فسحتهم مع أصدقائهم.
أعرف أننا نعيش زمن موت الطقوس، فلم يعد هناك حرص على أى شىء مما ذكرته، نكتفى بإرسال رسالة معايدة مكررة الكلمات على الموبايل للأقارب والأصدقاء أو كتابة سطرين على الفيس بوك بديلا عن الزيارات والمكالمات التليفونية، لم تعد صناعة الكعك فى المنزل تثير البهجة بل تعتبرها ست البيت حملا مرهقا تتخلص منه بشرائه جاهز وعلى قدر حاجتها، لم تعد العيدية بأوراق نقد جديدة ميزة، فهى لا تصمد لآخر اليوم، حتى ملابس العيد لم يعد لها حصانة، فابنتى الصغرى لا تصبر وترتديها قبل العيد أما الكبار فيرونها مزحة.
لا تستطيع أن تجبر أحدا أن يعيش زمنك ولا أن يحرص على طقوسه، لكننى مازلت سعيدة أننى عشتها، أستعيد تفاصيلها كلما سمعت أغنية «ياليلة العيد» وأشعر بنفس البهجة... أدام الله علينا فرحة العيد... وكل عام وأنتم بخير وسعادة.