«لو فاضل من سفرة إفطاركم أى طعام اتصل بينا هنجيلك فى أى مكان وناخد الأكل ونوزعه على الفقراء».. تلك هى المبادرة التى أطلقها عدد كبير من الشباب على وسائل التواصل الاجتماعى فى مجموعات منفصلة من أجل مساعدة الفقراء، تلك المبادرات كشفت عن أرقام صادمة لإهدار المصريين للطعام، على الأقل خلال شهر رمضان. «المصرى اليوم» صاحبت عددا من هؤلاء الشباب فى رحلاتهم من مرحلة اتصال الأسرة إلى الذهاب إلى المنزل والحصول على فائض الطعام، وكيفية تخزينه وإعادة تعبئته وتوزيعه على الأسرة الفقيرة. اكتشفت «المصرى اليوم» خلال أول 15 يوما فى رمضان أن المجموعة المكونة من 33 شابا تلقت اتصالات خلال تلك المدة من 550 أسرة، إذا ما استبعدنا الفنادق أو المطاعم التى تتصل بهم أيضا، وكانت بنسبة أقل بكثير. فوائض الأطعمة التى سلمتها الأسر الـ«550» تمت إعادة توزيعها على 3200 أسرة فقيرة، مما يشير إلى أن حجم فاض كل منزل- بعملية حسابية وناتج متوسط- يكفى لإطعام 5 أسر.
أحمد عبدالعظيم- مهندس كهرباء- ينهى عمله الحكومى فى الثالثة عصرا تقريبا، قرر الانضمام إلى إحدى مبادرات الشباب التى أطلقها صديق له لتجميع فوائض الطعام من المنازل وتوزيعها على الأسر الفقيرة «فى مجموعة قبل الإفطار تقوم بتوزيع الطعام على الفقراء، وفى مجموعة ثانية تعمل بعد الإفطار مباشرة وتجمع الأطعمة من منازل المتصلين، وهناك مجموعة ثالثة تقوم بتجهيز الطعام قبل توزيعه».. هكذا يشرح أحمد طبيعة عمله، هو وأصدقاؤه، فى تلك المبادرة.
«نص حلة أرز أو طبقين محشى أو غيرهما من الأطعمة» هى نوعية ما يتبرع به الأهالى بعد الإفطار، عبر هاتفه الشخصى يتلقى أحمد الاتصالات من الأهالى القريبين من المنطقة المتواجد بها، فهم يوزعون أنفسهم على المناطق السكنية التى يقيمون بها. يذهب أحمد فى اليوم الواحد إلى قرابة 4 أو 6 أسر فى اليوم الواحد، ثم ينقل ما جمعه فى أكياس صحية إلى الشقة التى يحفظون فيها الطعام لكى تستكمل مجموعة التجهيز دورها، على أن تأتى المجموعة الأخرى فى اليوم التالى، وتحديدا عند العصر، لتسلم الطعام وتوزعه على الفقراء.
«فى إحدى المرات وتحديداً خامس يوم من رمضان فوجئت باتصال من فنانة مشهورة، ذهبت إلى منزلها فى المعادى- يحكى أحمد- سلمتنا فوائض طعام تكفى لقرابة 30 أسرة دون مبالغة، وفى مرة أخرى اتصل بى رجل أعمال وأخذنا من منزله ما يكفى لإطعام 20 أسرة. كل ذلك كان مصيره سلة المهملات. وفى المقابل فى ناس تانية باخد منهم (حلة مكرونة أو نص حلة محشى أو نص فرخة أو حتتين لحمة)».
ومن خلال الاتصالات التى تلقتها تلك المجموعة تبين أنهم فى أول 15 يوما من رمضان ذهبوا إلى 550 منزلا، حصلوا منهم على أطعمة تكفى لإطعام 3200 أسرة فقيرة تم توزيع الطعام عليهم بالفعل.
ويؤكد أحمد أنه بخلاف فوائض الطعام، فإننا نفاجأ بأسر تسلمنا طعاما أعدوه خصيصا لنا، وهذا لم يكن فائضا عليهم، وهناك مطاعم وفنادق تتصل بنا أيضا.
مجموعة أخرى من الشباب كرروا نفس التجربة، قبل أول أيام رمضان من الشهر الماضى، جلست مجموعة من الصديقات المقرّبات مع بعضهن البعض، يتبادَلن برنامج أول أيام الشهر الكريم، والتى لم تخرُج جميعها إلا عن برنامج موحّد يتلخّص فى عزومات أُسرِيّة، فيما امتلكن جميعًا تعليقًا موحدًا حول طقوس أول أيام رمضان، تتعلق بكميات الطعام الفائض المُهدَرة، والتى لا تجِد لها موضعًا إلا سلال القمامة، فيما توجد مناطق فى القاهرة وغيرها لا يجِد الأهالى فيها طعام الإفطار من الأصل.
من هذه الملحوظة المشتركة لمعت فِكرة فى رأس إحدى الصديقات، وقررت أن تكتِب «بوست» أو منشورا على صفحتها على فيسبوك، تجمّع عن طريقه فائض عزائم أول أيام رمضان، وجمعها بواسِطة مجموعة الصديقات، وتوصيلها بشكل تطوُعى تمامًا للمحتاجين فى أحياء القاهِرة المحتاجة.
دينا مدحت، صاحبة فكرة مبادرة تجميع «بواقى الطعام»، والتى تستمِر للعام الثانى على التوالى، بعدما تمدد عدد متطوعيها من مجموعة الصديقات اللاتى لم تتعدين الست إلى ستين متطوّعا فى رمضان هذا العام.
تشرح دينا بداية الفكرة على النحو التالى: «كتبت بوست على فيس بوك أول يوم، مضمونه إن بما إن كلنا بيكون عندنا عزومات أول يوم رمضان، وكلنا هيكون عندنا أكل زيادة، وفى ناس مش لاقية تاكُل، فأنا هعدى عليكم آخد البواقى، وأوزعها، أهم حاجة يكون شكلها نضيف»، غير أن ردّ الفعل على المُبادرة لم يكُن متوقعًا بالنسبة لها.
تقول دينا: «الموضوع كبر أوى وتوسّع تمامًا، لدرجة إن أهالى وجمعيات بقوا بيكلمونا ويعملولنا أكل مخصوص»، فيما تستدل دينا على انتشار الفكرة بأنها فى أوائل أيام الشهر الكريم، العام الماضى، كانت تشترى عدد أطباق محدودا لتعبئة الطعام الفائض فيه من «السوبر ماركت»، إلا أنها بعد ذلك أصبحت مضطرة لشراء أعداد كبيرة بالجُملة لتغطية كميّات الطعام الفائضة التى تقوم المُبادرة بتوصيلها للنصف الأفقر من القاهرة فى مناطِق: مصر القديمة، وبطن البقر، والحجّارة.
أما عن عملية تجميع الطعام نفسها، فيقوم أى شخص متوقّع أن يكون لديه طعام فائض بالاتصال بالشخص المتطوّع بجمع الطعام من المنطقة التى يسكُن فيها، وإخباره بشكل تقديرى بعدد الوجبات التى يتوقع أن تفيض من مائدته، ليقوم المتطوّع بتوصيل أطباق بعدد الوجبات المتوقّع، ويعود بعد العزومة لتسلم الوجبات المُعلّبة لتوزيعها فى اليوم التالى- حسب دينا.
لا يتوقف دور المتطوعين عند هذا الحد، حيث إنهم من تسلم الوجبة، لليوم التالى، يقومون بعملية تباديل وتوافيق على الوجبات، ليجعلوها وجبات غذائية متكاملة، فمثلاً إذا قامت إحدى الأسر بالتبرع بفائض طعامها من الأرز أو المكرونة، فلابُد من تكملته بحلويات وبروتين من أسر أخرى، لتكون الوجبة متكاملة غذائيًا. تقول دينا: «لو مثلاً ناقص بروتين، بنجمّع أنا وصحباتى ونشترى فراخ ونسويها ونزوّدها على الوجبات، أما الحلويّات، فأكثر من محل حلويات بالقاهرة تواصلوا مع أعضاء المبادَرة، ويوفِرون عددا ثابتا من الحلوى يوميًا لإلحاقه بالوجبات».
اختارت دينا وأصدقاؤها منطقة مصر القديمة بالذات لتكون المكان الأساسى لتوزيع الوجبات التى يقومون بتجميعها، وفى هذا الاختيار تقول دينا: «بنروح مصر القديمة وأحياء حواليها زى بطن البقر والحجّارة، وده علشان محدش مُهتم بمصر القديمة زى منشيّة ناصر مثلاً، ولأنها واسعة جدًا ومفيش جمعيات بتشتغل هناك».
غير أن دخول مصر القديمة ليس بالمهمّة السهلة تمامًا لدينا وصديقاتها، تحكى دينا عن الإجراءات التى يقومون بها لضمان دخول آمن للمنطقة، فضلاً عن وصول الوجبات لمستحقيها بالفعل وعدم إهدارها، حيث يعتمد الفريق على وسيطة من القادة المجتمعيين بالمنطقة، والتى تعرِف تقريبًا جميع الأُسَر فتجعَل عملية توزيع الطعام تتم بأمان، وبالرغم من هذه المُخاطرة اليومية فى أيام الشهر الكريم، وبرغم غياب المُتطوعين عن موائد أسرهم طوال الشهر الكريم: «السنة اللى فاتت مفطرتش ولا يوم على الفطار مع أهلى ولا فى المعاد»، إلا أن دينا وصديقاتها يعرفون جدوى المبادرة بوصولهم لمرحلة التوزيع، تقول دينا: «اللى الناس شايفاه بواقى أكل حقيقية ناس تانية بتموت بعض عليه».
تسترجع دينا العديد من المواقِف أثناء مرحلة التوزيع، ففضلاً عن التدافُع والشجار الذى قد يشتعل أثناء توزيع الوجبات فى بعض الأحيان، تعتبِر دينا سعادة الأطفال بأصناف الحلوى المقدّمة من أحد المحلات الشهيرة، والتى لم يعرفوها من قبل، ويحبونها بالرغم من أنهم لا يعرفون لها اسمًا، فيما يتولّى المتطوعون عملية تعريفهم إليها «كاب كيك- ريد فيلفيت، أو كُنافة بالريد فيلفيت»، طقسا مازِحا ما بين المتطوعين وأهل مصر القديمة.
تُقدِر دينا أعداد الواجبات التى تم توزيعها بنهاية رمضان الماضى بحوالى عشرة آلاف إلى خمسة عشر ألف وجبة تم جلبها فى العام الماضى من بواقى طعام أُسر بمناطق التجمع الخامس ومصر الجديدة ومدينة نصر والمعادى وعُرابى، وتوزيعها على أسر أكثر احتياجًا فى منطقة مصر القديمة وما حولها، كبطن البقر، والحجّارة، تقول دينا: «مكونتش عارفة إيه اللى هيحصَل لو مكنش فى حد يوصَل الأكل ده، قدرتى تسعدى بجد إتناشر ألف أسرة أو أكتر بدل ما الأكل يترمى فى الزبالة».
أما عن اختلاف العام السابق عن هذا العام، ترصُد دينا عددا من الاختلافات، فمن ست متطوعات من الأصدقاء فقط، إلى ستين متطوّعا هذا العام، ما بين قائد فريق مسؤول عن منطقة، وأعضاء فريق مساعدين يقومون بتغطية المنطقة، والأسر المتبرِعة، تمدد فريق العاملين على مبادرة توصيل بواقى الطعام إلى المحتاجين.
كذلك انضمام فئات أخرى غير الأسر للشرائح المتبرِعة، كالإفطارات المُجمّعة، والأهالى الذين يعدون طعاما خصيصًا للمبادرة وليس فائض طعام فقط، فضلاً عن المطاعم ومحال الحلوى، التى توفِر رافِدا من الطعام بشكل شبه دائم، أصبَح يسمَح بتوفير وجبات دائمة شبه يومية لمجموعات من العُمال فى محطات الوقود وغيرها، إلى جانب الأسر.
تؤكِد دينا أخيرًا جودة الطعام الذى يتم توزيعه، تقول: «الأكل بنحاول يكون نضيف أوى أوى، الأكل اللى ماتلمسش اللى مُمكِن تاكليه فى بيتك»، فيما تعتبِر أن مكافأة الفريق تكمُن فى فرحة عيون الأطفال، وتدافُعهم على أًصناف الحلوى الغريبة عليهم، وعودتهم أخيرًا بعد يوم عملٍ شاق بقلوب شاكِرة «الناس بياخدوا الأكل اللى كان هيترمى ويشكروكى، وبالرغم من معاناتنا من عدم النظام، بنقول الحمد لله على اللى إحنا فيه».