ليس غريبا أن تدير تركيا ظهرها لحركة حماس وتمضى قدما في تطبيع علاقتها مع إسرائيل انطلاقا من مصالحهما المشتركة، فبعد الاعتذار الذي قدمه بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلى، لرئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان عام 2013 بوساطة الرئيس الأمريكى باراك أوباما عن حادث مرمرة الذي تسببت فيه إسرائيل، قرر الرجلان تطبيع العلاقات من جديد وإعادة فتح السفارتين، ومنذ ذلك الوقت تجرى الاتصالات بين البلدين والمفاوضات حول شروط المصالحة التي كان من بينها فك الحصار عن غزة كبند أساسى لاستئناف العلاقات وعودة السفير الإسرائيلى إلى تركيا.
فبعد أشهر من الاتصالات والمفاوضات حان وقت المصالحة والذى سيتم التوقيع عليها يوم الأحد المقبل بعد التوصل إلى صفقة ستضع حدا لنزاع دام ست سنوات، وهذا يعنى أنه بحلول نهاية شهر يونيو الحالى يفترض أن تعود العلاقات التركية الإسرائيلية إلى سابق عهدها، ولأن أي اتفاق لا بد أن يكون له ثمن، فقد كان ثمن عودة المياه لمجاريها بين تركيا وإسرائيل هو التضحية بحماس وتجاهل الشرط التركى الرئيسى أثناء المفاوضات مع إسرائيل بفك الحصار عن قطاع غزة، ولم ينته الأمر عند هذا الحد بل تلقت إسرائيل وعدا واضحا بأن تركيا ستغلق مكتب حماس في اسطنبول، ولأن الأتراك يريدون حفظ ماء الوجه بالحفاظ على علاقتهم بحماس في قطاع غزة وإسرائيل لا تمانع هذه العلاقة السياسية، فقد اتفق الطرفان أن تمنع تركيا انطلاق تفجيرات من قبل حماس ضد إسرائيل أو ضد الإسرائيلين أو التخطيط لها مع تركيا.
واقع الحال أن تركيا تخلت عن حماس واشترت علاقتها التاريخية بإسرائيل، ونفض الرئيس التركى أردوغان يده من ذنب التخلى عن حماس وأبلغ قيادتها بأنه فعل كل ما بوسعه لرفع الحصار أو حتى تخفيفه، لكن السلطات الإسرائيلية تمسكت بموقفها الرافض، لذا سيضطر للمضى قدما في إبرام اتفاقه مع إسرائيل!!. تحاول تركيا تجميل صورتها والظهور بمظهر الحليف والداعم للحركة رغم وضوح بنود الاتفاق وتأثيرها السلبى على حماس وغزة معا، فقد فضلت تركيا مصالحها الاستراتيجية وعلاقتها التاريخية بإسرائيل على علاقتها بحماس، علاقة تركيا بإسرائيل طويلة وممتدة منذ أن اعترفت تركيا بإسرائيل عام 1949 وإقامة علاقات دبلوماسية بينهما، واستمرت في النمو والتواصل والازدهار بدءا من أواسط ثمانينيات القرن الماضى مرورا بالتسعينيات، وصلت إلى أوج ازدهارها في عام 1992، وكانت زيارة الرئيس التركى سليمان ديمريل لإسرائيل عام 1996 هي الأولى من نوعها لرئيس تركى، تم فيها التوقيع على اتفاق تجارة حرة أدى إلى تعاون وازدهار اقتصادى بين الدولتين، ولم تكن تلك الاتفاقيات الوحيدة بينهما بل تطورت لإقامة علاقات عسكرية وثيقة تجلت بمناورات بحرية مشتركة لسلاح البحرية في إسرائيل وتركيا وترتيبات جوية مشتركة لسلاح الجو الإسرائيلى فضلا عن تصدير الأسلحة والوسائل القتالية الإسرائيلية المختلفة لتركيا التي حسنت مستوى وسائل تركيا القتالية بشكل ملحوظ، بالإضافة إلى ازدهار السياحة بين البلدين فكانت تركيا هدفا شعبيا مطلوبا لدى السياح الإسرائيلين ومصدر دخل قومى للبلاد من السياحة الإسرائيلية.
وفى ضوء كل ذلك هل يمكن لتركيا التضحية بعلاقاتها مع إسرائيل من أجل حركة حماس؟!
كان يجب أن تتوقع حماس تخلى تركيا عنها وعن وعودها، وإلا فماهو مصير إنشاء ميناء في غزة الذي تبنته تركيا وبمساعدة قطر؟ لقد انحازت أنقرة لمصالحها مع إسرائيل وما سيعود عليها من منافع، واستفادة مستقبلية تطمح لها خاصة حلمها في دخول الاتحاد الأوروبى بمساعدة تل أبيب، حماس التي استشعرت قرب التوصل لاتفاق يضحى بها، لوحظ في الآونة الأخيرة أن زيارات قادتها لتركيا تراجعت بل تكاد تكون انعدمت، فلم يزر خالد مشعل، رئيس المكتب السياسى للحركة، أنقرة سواء لحضور المؤتمر العام لحزب العدالة والتنمية الشهر الماضى أو لحضور حفل زفاف ابنة أردوغان، وهو نفس الأمر الذي دعا مشعل قبل يومين في كلمة له أمام حفل إفطار أقامه في العاصمة القطرية للقول بأن «هناك مخططات إقليمية يتم الإعداد لها لمحاولة صياغة المشهد الفلسطيني الداخلي وصناعة قيادته الجديدة والتحكم فيها وفق مقاسات إقليمية وليس وفق متطلبات الفلسطينيين ومصالحهم».
لكن ورغم توقع قيادات حماس بأن تتخذ السلطات التركية إجراءات متشددة تلبية للشروط الإسرائيلية الجديدة للتطبيع ضد مسؤولى الحركة في تركيا، وتقليص وجودهم وتحركاتهم في المرحلة المقبلة، تبقى في يد الحركة ورقة ضغط مهمة ربما تعيد صياغة علاقتها بتركيا، خاصة في ضوء اتصالات اللحظات الأخيرة التي جرت بين أنقرة وتل أبيب في محاولة لأن يشمل الاتفاق، إعادة جثث الإسرائيليين «هادار جولدن» و«أورون شاؤول» اللذين تحتفظ بهما حماس والمواطن الإسرائيلى «أبرا منجيستو» الأسير في غزة، وفى مقابل ذلك تقدم تسهيلات إسرائيلية في موضوع إبقاء مكتب حماس في تركيا مع الإبقاء على الحصار في غزة، كما ستسمح إسرائيل بموجب الاتفاق باستكمال بناء مستشفى في قطاع غزة بالإضافة إلى بناء محطة طاقة جديدة ومحطة تحلية لمياه الشرب كبادرة حسن نية تلوح بها إسرائيل لتركيا وتجمل بها تركيا علاقتها التي أصبحت على المحك بحماس، والأيام المقبلة ستكشف المزيد من التفاصيل وربما المفاجآت.