من ذاق مرارة السجن يوما، عرف عذوبة الحرية.. ومن شرب من كأس الحزن يوما، أدرك قيمة السعادة.. والحقيقة أن معاناة السجن ليست معاناة واحدة؛ وإنما هى أنواع متعددة من المعاناة، كفقدان الحرية، وما يحدث بين إخوان السجن، وما يرتبط بالزوجة والأولاد.. معاناة فقدان الحرية هى الأساس.. فليس متاحا لك التمتع بأى نوع من الحرية التى كنت تمارسها خارج السجن.. يكفى أن يقال إنه ليس بيدك مواعيد غلق أو فتح باب الزنزانة أو العنبر، وهل يسمح لك بالتريض أم لا، وإذا سمح فكم من الوقت؟.. نوعية الطعام لا تتجاوز الخبز والفول والجبن فى الصباح والمساء، والأرز وشربة العدس فى الغداء، اللهم إلا إذا سمح لك بأن تستقبل طعاما من خارج السجن..الأفق الذى تعيش فيه لا يتعدى مأمور وضباط وصف ضباط وأفراد إدارة السجن.. فى يوم من الأيام كنت أتحدث مع مأمور سجن ملحق مزرعة طرة، وكان معنا أحد الضباط الذين يتولون الإشراف على الزيارات.. وأثناء الحديث، شاهد الضابط زوجتى وهى قادمة نحو مكان الزيارة، فقال: إلحق، ده الحكومة وصلت.. قلت: هذه ليست الحكومة، بل المأمور.. قطب المأمور حاجبيه، وقبل أن ينطق، عاجلته بقولى: لا مؤاخذة يا سيادة المأمور.. الواحد منا - وهو فى الحرية - يطلق على زوجته مصطلح الحكومة، لأنها أعلى شىء متحكم فى البلد، أما فى السجن فالوضع مختلف، فأعلى شىء عندنا هو المأمور.. ضحك الرجلان، واستأذنت منهما للقاء زوجتى.. المعاناة التى نجدها بين إخوان الزنزانة شىء مختلف، إذ إن لكل فرد طبيعته ومزاجه التكوينى والنفسى الخاص.. البعض لديه القدرة على أن يتلاءم مع إخوانه، وهو ما يتطلب منه التنازل عن بعض خصوصياته، والبعض الآخر ليس لديه أى قدرة على ذلك، ويتصرف كأنه يعيش وحده فى الزنزانة أو كأنه متواجد فى منزله، الأمر الذى يسبب مشكلات كثيرة بين الإخوان، حتى إن البعض يتمنى أن لو سجنا فى زنزانة انفرادية.. إن السجين قد تضيق نفسه لأسباب متعددة، منها تأخر الزيارة، أو عدم تحمله للبقاء فى مكان ضيق فترة طويلة، أو عدم التوافق مع إخوانه فى الزنزانة، ويحدث هذا فى الغالب لاختلاف الطبائع.. وقد يقع عراك بين فردين أو أكثر لمجرد مناقشة جرت بينهم، أو يصاب بعض الأفراد باكتئاب أو وسواس قهرى، خاصة عندما تطول فترة السجن أو الحبس الاحتياطى.. أتذكر جيدا شابا كان محبوسا معنا احتياطيا فى سجن مزرعة طرة فى الفترة بين منتصف عامى ٢٠٠١ و٢٠٠٢.. كان مصابا بمرض عصبى، فحول حياتنا إلى جحيم لا يطاق.. وقد حاولت مع النيابة لإخلاء سبيله، رحمة به وبنا، لكن محاولاتى باءت بالفشل.. وعندما لجأت عن طريق أحد محامينا إلى مباحث أمن الدولة، تم الإفراج عنه فى أواخر مارس ٢٠٠٢.. لذلك أقول: كانت مشكلة التسكين فى الزنازين من أهم المشكلات التى تواجه قيادة أى مجموعة.. معاناة الزوجة والأولاد بسبب سجن عائلها من الأمور المعتادة.. هذه المعاناة تظهر آثارها على كل من الطرفين، الزوجة والأولاد من ناحية، والزوج السجين من ناحية أخرى.. أغلب السجناء لديهم قدرة على التحمل، على تفاوت واضح فى الدرجات بين سجين وآخر، غير أن البعض يفتقدون هذه القدرة، وهؤلاء يعيشون طول الوقت فى هم وقلق دائم، خاصة إذا لم يكن هناك من يهتم بزوجاتهم وأولادهم.. من ناحية أخرى، ليس كل الزوجات على مستوى واحد من الثبات والقبول بالأمر الواقع.. وقد رأينا زوجات كن سندا قويا لأزواجهن فى أثناء المحنة، وفى ذات الوقت رأينا العكس.. والحقيقة أن الزوجات، خاصة أولئك اللائى يأتين لزيارة أزواجهن من مكان بعيد، يتحملن مشقة كبيرة ومعاناة شديدة.. صحيح أن الزوجة تكون فرحة لرؤية زوجها، لكنها تنتهز الفرصة للشكوى للزوج السجين، فتضيف إلى همه هموما.