(المشهد الأول)
كانت القرى عارية. لم تكن قد كستها أوراق الشجر الكثيفة ولا شواشى النخل العالى. بنايات الطوب اللبن الرمادية علامات مميزة بين مسطح أخضر ممتد حتى المدى، منخفضة إلا مئذنة المسجد التى تطعن الفضاء.
الجسر كان خاليا من المارة فى وقت الظهيرة. الشمس تلهب أكداس التراب. يسيل العرق من جبين جدى، يتصبب على وجهه الأسمر. يمد ساعده فيرجع طرف كمه مبتلا. يرفع هامته، ليشتهى ظلال النبقة الوحيدة الواقفة على حافة الجسر.
لمحه جدى يمتطى صهوة حصانه الأبيض، يتمايل ويغازل نسمة خاطفة سرعان ما قتلها الصهد المنبعث من كل مكان. عجرفته تمددت فى ظهره المتصلب للخلف. وكان التجهم مطبوعا على ملامحه المنقبضة وأنفه الحاد المنفوخ بالزهو، وشفتيه المزمومتين بحزم مصطنع.
ولأن جدى كان من رعاياه المساكين فقد أطلق ساقيه للريح، غير مبالٍ بقلبه الآيل للسقوط، حتى استقر أمامه، مصفر الوجه، مرتعش الأطراف، يزيح جسده عن قدمى الحصان الأماميتين اللتين كادتا أن تدهمه. رفع يده إلى جانب رأسه، ثم حطها على صدره، وخطف انحناءة، وقال:
ـ أوامرك يا سعادة الباشا.
تنحنح وقال:
ـ لماذا لم تذهب إلى شغلك يا خنزير؟!
فاستجمع جدى بعض شجاعته وقال:
ـ طردنى وخصم أجر كل الأسبوع.
ـ من؟
ـ فهمى أفندى.
ـ لماذا؟
ـ الفأس قطعت إصبعى. جلست أربطه. رآنى فصرخ:
ـ هنا لا مكان للعاجزين.. ثم.. ثم..
ـ ثم ماذا؟
ـ ألهب ظهرى بالسوط.
ضرب جنبىّ الحصان بساقيه، فانطلق وترك وجه جدى يلعق الغبار، ويهدهد دموعا لم تلبث أن غالبته، وسحت على ركبتيه المنطبقتين على رأسه، وجلبابه الرث، والخطوط الحمراء والزرقاء والسوداء التى صنعها السوط فى ظهره، وعجزه أن يعود فى المساء إلى جدتى المريضة بحفنات من القمح أو الشعير.
■ ■ ■
(المشهد الثانى)
تكاتفت الأشجار، وتلاحم النخيل. ضاعت الملامح القديمة لقريتنا. تلك التى عرفها جدى، وكانت تسكن مخيلته حتى لفظ أنفاسه هناك تحت السدرة، التى نال منها الزمن، وبدت عجوزا شمطاء، لكنها جادت لمحيطها بسدرات باسقات، تتساقط ثمارها فتطعم الأولاد الصغار العائدين من المدرسة.
تتوارى الشمس خلف الآجام الخضراء، ثم لا تلبث أن تتسرب أشعتها بين الأغصان، فيسرى الدفء فى عروق أبى. كنت أجلس أراقبه، وفأسه تقضم التربة فى نهم. تلثم عينى سطور الكتاب ثم ترتد سريعا إلى معوله الذى لا يشبع، والأرض التى ترقص وراءه فرحانة بثوبها الجديد.
وهده التعب، فأتى وجلس جوارى، يلملم قطرات العرق ويروض الأنفاس اللاهثة. أشار إلى جيب جلبابه فأحضرته إليه. دسّ يده فى جيبه وأخرج المصحف. فتح سورة «الأعراف» وجاد للأسماع بصوت شجى، يملؤه الخشوع، ويبعث على البكاء.
سألته يوما:
ـ أين تعلمت القراءة؟
ـ فى الكتّاب.
ذات ليلة حالكة الظلام، شعرت أن يده تزحف بحثا عنى، فاقتربت منه. طوقنى وراحت أصابعه القوية تتخلل شعرى الناعم، فتبعث الاطمئنان فى نفسى. أمسك يدى الطرية وشد عليها قائلا:
ـ إياك أن تنكسر.
فحملقت إليه، وأنا لا أفهم شيئا، لكنه أردف:
ـ ستأتى أيام صعبة، وستتفطر القلوب حزنا.
ـ لمَ يا أبى؟
ـ ستعرف يوما ما.
قضى عقلى الصغير كل الليل يتخبط لعله يفهم شيئا من دون جدوى. ذات ليلة داهموا بيتنا قبيل الفجر. انتفضت مذعورا، ورأيت أبى محاطا بالأذرع القوية، وحجبته أجساد غليظة عنى.. وتباعدت المسافة بيننا إلى الأبد.
صرخت يومها فى وجه الضابط:
ـ اترك أبى.
طبع قساوته على خدى صفعة كادت أن تزهق روحى، ثم انهمرت الشتائم العارية تلوث براءة أذنى. حشروه داخل عربتهم التى تشبه السجن الصغير، وانطلقت تزمجر، حتى ذابت فى عمق الظلام، ولم تبقَ منها سوى غلالة ضوء ترتعش فوق الأشجار والنخيل.
وحين كبرت قالت لى أمى:
ـ مات فى السجن.
ـ هل كان مجرما؟
ـ لم يدخل الحرام جوفه.. ولم يقتل أحدًا.. كان رجلًا شريفًا.
ـ وكيف يسجنون الشريف؟
ربتت كتفى وغالبت دموعها وقالت:
ـ لعن الله السياسة.
ولم أفهم من كلامها الكثير، لكننى أدركت تماما سرّ نحيبها فى الليل، وعرفت سبب الإجهاد الذى يصيبها طويلا، وتلك السحابات السود التى ترابط أمام مقلتيها المنطفئتين، والانزواء بعيدا عن الناس، والغضب الذى يحتل ملامحها حين ترى صورة وزير الداخلية فى التليفزيون، أو تسمع صوته فى نشرة الأخبار، وسرّ كراهيتها للرجل الذى يقطن أول شارعنا وأسمع الناس تقول إنه «مرشد للمباحث».
■ ■ ■
(المشهد الثالث)
تجردت الأشجار من الورق، واستسلمت للخريف الذى كان مصمما على تعريتها بريح متربة صافرة، تكدّر صفو الدنيا والنفوس، وتسوق الأوراق الساقطة إلى قلب الشوارع، فتتكدس عند فوهات الحوارى الضيقة. وأخرج من حارة منها أواجه الغبار والريح والنسوة الجالسات على عتبات البيوت، يخفين وجوههن خلف الطرح السود.
تسألنى واحدة منهن، انقطعت أخبار ابنها فى العراق:
ـ هل قامت الحرب يا «باشمهندس»؟
فأرد وأنا أطالع «مانشيت» الصحيفة:
ـ لا يا خالة.. لكن يبدو أنها ستقع لا محالة..
وتأخذنى الصحيفة من الناس، فأنزوى ممددًا على أريكة فى ركن الغرفة الداخلية. أقلب صفحاتها جميعا بحثا عن أخبار الحرب والوظائف الخالية وحكايات المتعبين مثلى. ولما يغلبنى الليل أنعس ورأسى مسجى بأوراق الجريدة. ويأتينى صوت أبى فى الأحلام:
ـ لا تجعل الحزن يقتلك..
فأرمى رأسى على صدره باكيا وأقول:
ـ خمس سنوات منذ تخرجى فى كلية الهندسة ولا أجد عملا.
فيربت ظهرى ويقول:
ـ اكسب لقمتك بالحلال من أى عمل مهما كان بسيطا.
أرفع رأسى وأثبت عينى فى عينيه وأقول:
ـ والشهادة التى حصلت عليها.. والأحلام العريضة.. ونظرة الناس إلىّ.
فيقبّل جبينى ويقول:
ـ إذا امتلكت اليقين لن يهمك الناس، وإذا امتلكت الإرادة ستحقق الحلم.
ثم يغيب منى فجأة فى عوالم مفضضة وصفراء فاقع لونها تنسدل وراءها ستائر سوداء تحجبه عنى، فأصرخ وأناديه أن يأتى، فينشق الظلام عن يد كبيرة تسلم على، ويأتينى صوت مطمئن:
ـ لن ترانى حتى تغلب آلامك.
أنهض مذعورا، فإذا بالشمس تفيض من شباك الحجرة وكوة فى أعلاها، تحت السقف مباشرة، وتدثّرنى بنور ودفء، فأتسلم على الفور عملى الذى تعودت على إنجازه كل صباح، وهو الحملقة فى الجدار المواجه لى. وقبل أن يشتد اختناقى أخرج حاملًا فى صدرى حشرجة البكاء وبعض أمل مرتجى. أترك قدمى للطريق. أركل كل حجر يصادفنى. أدفعه فيمرق ليستقر هناك فوق بسط النجيل، أو يصنع دوائر متتابعة على صفحة مياه الترعة.
لا مكان يحتوينى سوى تحت السدرة، حيث الذكريات الأليفة. الأب الذى ذهب من دون رجعة، والجدّ الذى كابد حتى سقط بلا حراك، وآمال طفل غضّ كان يتسلق جذعها بأصابع دقيقة كمخالب قط ويصعد إلى أعلى، من دون أن يدرك أن الحياة سترمى به يوما ما إلى أسفل، وأن عيشته ستصبح سلسلة من الانتظار، ومحطات لا تأتيها القطارات، ولا يرد إليها مسافر. راكدة كمياه المستنقع، الذى طالما كنا نلقى بأجسادنا فيه ونحن صغار، حين كانت مياهه تجددها ترعة صغيرة صبت فيه سنين قبل أن يردم الفلاحون الحبل السرى بين الترعة والمستنقع.
هاهو قرص الشمس يجنح إلى المغيب، حمرته تخمش جراحى النازفة، وترسم خيوطا من الخوف على جدران قلبى فيرتجف، بعد أن تتحول بسط البرسيم الرائعة إلى بحر من الظلام. ولما يوغل الليل فى الرحيل يأتينى وجهه الصبوح، ويقول فى ثقة متناهية:
ـ إياك أن تنكسر.. اقتربت نهايتهم، فافرد جناحيك.
أدفن وجهى بين ركبتى وأقول له:
ـ كاد الحزن أن يقتلنى يا أبى.
فيغمغم بحروف لا أفهمها، صوت يشبه تماما شحير العربة التى أخذته يوما. أضع إصبعىّ فى أذنى، وألثم الأرض مهرولا إلى حضن الضوء الشحيح فى شوارع قرية غافية.