عزيزى نيوتن
رغم أن «الثورة» لم تكن يوماً فى تاريخ الشعوب أمراً مخططاً له إجمالاً أو تفصيلاً، إلا أن الفارق شاسع بين ما يمكن تسميته «هوجة» أو «فوضى»، وبين ما يستحق تسميته «ثورة». فالثورة Revolution قلب لأوضاع قائمة مرفوضة، لتحل محلها أوضاع أخرى مرغوبة، لذا فإن أى تحرك جماهيرى يؤدى فقط إلى هدم القائم المرفوض، دون أن يتبعه ولو بعد حين (قد يطول أو يقصر) التأسيس لبناء جديد أرقى حضارياً، وأكثر قدرة على تلبية تطلعات الجماهير التى قامت بالثورة، لن يستحق هذا التحرك تسمية «ثورة».
وإذا كان الشق أو المرحلة الأولى من «الثورة» عملاً جماهيرياً يبدأ عفوياً، والأغلب أن تستمر العفوية وغياب التخطيط فيه أغلب الوقت، فإن الشق الآخر أو المرحلة الثانية التى يتم خلالها تأسيس الواقع الجديد لابد أن تستند لمقومات مادية ومعنوية يفترض أن تكون موجودة فى أرض الواقع، وكانت تنتظر التخفف من هيمنة النظام القديم، لتتمكن من الفاعلية والتحقق.
يأتى بنا هذا إلى البحث فى هذه المقومات، التى تقوم عليها عملية التغيير الجذرى الشامل فى المجتمعات ومؤسساتها، وليس مجرد عمليات إصلاح جزئى لا تحتاج للثوارت بتكاليفها المجتمعية والاقتصادية الباهظة.
تقوم المؤسسات صغيرها وكبيرها على أربعة عناصر: المقومات المادية hardware- النظام system (القواعد والإجراءات المحددة للعلاقات وأساليب العمل)- العنصر البشرى (بمؤهلاته المهنية والشخصية) human resources- الفكر software الذى يهيمن على إدارة العمل بسائر مستوياته. تحتاج هذه العناصر الأربعة لكى تعمل معاً بطريقة صحيحة أن تكون متوافقة compatible.
فى معرض التغيير الجذرى وليس مجرد التحسين، يحتاج الأمر لتغيير متواز ومتوافق فى العناصر الأربعة معاً. فتقوية أو تغيير عنصر واحد أو أكثر مع بقاء عنصر أو أكثر لم يمسسه التغيير لن يؤدى فى أغلب الأحوال للنتائج المطلوبة. ليس فقط لضعف تأثير عنصر واحد مستجد على ثلاثة عناصر باقية على حالها، بما يشكل افتراضاً غير دقيق بأن نسبة تغيير واحد مقابل ثلاثة تشكل 25% من حجم التغيير المطلوب، ولكن لأهمية التوافق compatibility بين العناصر الأربعة مع بعضها البعض. فالفكر software الجديد مثلاً لإدارة المؤسسة أو الدولة، لن يعمل فى ظل بقاء العناصر الثلاثة الأخرى غير المتوافقة معه على حالها، وسيظل فى هذه الحالة مجرد كلام إنشائى غير مفعل عملياً.
ولقد اختبر كاتب هذه السطور فى حياته العملية فى شركة قطاع عام هذا الأمر، حيث حاول رئيس الشركة القفز بأدائها عبر تغيير عنصر واحد وهو النظام system (القواعد والإجراءات المحددة للعلاقات وأساليب العمل)، وذلك بالحصول على شهادة الأيزو ISO، والتى تعيد ترتيب القواعد والإجراءات المحددة للعلاقات وأساليب العمل وفق أحدث نظم الإدارة، وهو نظام الجودة الشاملة Total Quality، بالطبع مع بقاء العناصر الثلاثة الأخرى على حالها، وأخطرها كل من العنصر البشرى human resources والفكر software. كانت النتيجة- رغم حصول الشركة بالفعل على شهادة الأيزو ISO باعتماد من شركة عالمية متخصصة- صفرا كبيرا، وبقيت نظم الأيزو المفروضة مجرد أوراق يتم تلفيقها على عجل، قبيل كل تفتيش دورى من الشركة المعتمدة للشهادة، وظلت النظم والقواعد القديمة هى المطبقة فعلياً على أرض الواقع، تحت حراسة ورعاية كل من العنصر البشرى human resources المتخلف، والفكر software الأشد تخلفاً.
الحماسة إذن والشعارات والصراخ والمظاهرات قد تقلب أو تهدم نظاماً، لكنها غير قادرة على تأسيس واقع جديد أكثر تحضراً. فالجديد المأمول إن لم تتوفر مقوماته لن نناله أبداً، وهى تلك العناصر الأربعة التى لابد أن تتغير معاً، لتكون متوافقة compatible ومن ثم قادرة على العمل المتناغم.
نقول هذا تنبيهاً وتحسباً لتطلعات المستقبل، لأن الربيع المصرى فى 2011 فى سعيه للتغيير لم يتخلص فقط من بعض من العناصر الأربعة سابقة الذكر، لتحل محلها عناصر جيدة منفردة، وترك بقية العناصر على حالها ففشل التغيير، ولكن ما حدث هو أننا وضعنا رموز النظام القديم فى السجن، وأتينا أولاً عبر انتخابات ديمقراطية برموز جديدة من أهل التقوى والورع الدينى، والذين ربما يعرفون فقط وحصرياً معالم الطريق إلى جنة الخلد فى الحياة الآخرة، ثم استبدلناهم عبر ثورة أخرى، أتت بمن ربما قد نثق فقط وحصرياً فى مقدرتهم على قيادة الدبابات وإطلاق الصواريخ وتحريك الأساطيل والطائرات فى أزمنة الحرب. وكلا التغييرين ببساطة كان تغييراً لعنصر واحد هو العنصر البشرى human resources، وتصادف لسوء الحظ أن كان التغير للأسوأ وليس للأفضل!.
كمال غبريال