x

نيوتن من صندوق البريد نيوتن الخميس 16-06-2016 21:50


عزيزى نيوتن

رغم أن «الثورة» لم تكن يوماً فى تاريخ الشعوب أمراً مخططاً له إجمالاً أو تفصيلاً، إلا أن الفارق شاسع بين ما يمكن ‏تسميته «هوجة» أو «فوضى»، وبين ما يستحق تسميته «ثورة». فالثورة ‏Revolution‏ قلب لأوضاع قائمة مرفوضة، لتحل ‏محلها أوضاع أخرى مرغوبة، لذا فإن أى تحرك جماهيرى يؤدى فقط إلى هدم القائم المرفوض، دون أن يتبعه ولو بعد ‏حين (قد يطول أو يقصر) التأسيس لبناء جديد أرقى حضارياً، وأكثر قدرة على تلبية تطلعات الجماهير التى قامت ‏بالثورة، لن يستحق هذا التحرك تسمية «ثورة».‏

وإذا كان الشق أو المرحلة الأولى من «الثورة» عملاً جماهيرياً يبدأ عفوياً، والأغلب أن تستمر العفوية وغياب التخطيط فيه ‏أغلب الوقت، فإن الشق الآخر أو المرحلة الثانية التى يتم خلالها تأسيس الواقع الجديد لابد أن تستند لمقومات مادية ‏ومعنوية يفترض أن تكون موجودة فى أرض الواقع، وكانت تنتظر التخفف من هيمنة النظام القديم، لتتمكن من الفاعلية ‏والتحقق.‏

يأتى بنا هذا إلى البحث فى هذه المقومات، التى تقوم عليها عملية التغيير الجذرى الشامل فى المجتمعات ومؤسساتها، ‏وليس مجرد عمليات إصلاح جزئى لا تحتاج للثوارت بتكاليفها المجتمعية والاقتصادية الباهظة.‏

تقوم المؤسسات صغيرها وكبيرها على أربعة عناصر: المقومات المادية ‏hardware- النظام ‏system (القواعد ‏والإجراءات المحددة للعلاقات وأساليب العمل)- العنصر البشرى (بمؤهلاته المهنية والشخصية) ‏human ‎resources‏- الفكر ‏software‏ الذى يهيمن على إدارة العمل بسائر مستوياته. تحتاج هذه العناصر الأربعة لكى تعمل ‏معاً بطريقة صحيحة أن تكون متوافقة ‏compatible.‏

فى معرض التغيير الجذرى وليس مجرد التحسين، يحتاج الأمر لتغيير متواز ومتوافق فى العناصر الأربعة معاً. فتقوية ‏أو تغيير عنصر واحد أو أكثر مع بقاء عنصر أو أكثر لم يمسسه التغيير لن يؤدى فى أغلب الأحوال للنتائج المطلوبة. ‏ليس فقط لضعف تأثير عنصر واحد مستجد على ثلاثة عناصر باقية على حالها، بما يشكل افتراضاً غير دقيق بأن ‏نسبة تغيير واحد مقابل ثلاثة تشكل 25% من حجم التغيير المطلوب، ولكن لأهمية التوافق ‏compatibility‏ بين ‏العناصر الأربعة مع بعضها البعض. فالفكر ‏software‏ الجديد مثلاً لإدارة المؤسسة أو الدولة، لن يعمل فى ظل بقاء ‏العناصر الثلاثة الأخرى غير المتوافقة معه على حالها، وسيظل فى هذه الحالة مجرد كلام إنشائى غير مفعل عملياً.‏

ولقد اختبر كاتب هذه السطور فى حياته العملية فى شركة قطاع عام هذا الأمر، حيث حاول رئيس الشركة القفز بأدائها ‏عبر تغيير عنصر واحد وهو النظام ‏system‏ (القواعد والإجراءات المحددة للعلاقات وأساليب العمل)، وذلك بالحصول ‏على شهادة الأيزو ‏ISO، والتى تعيد ترتيب القواعد والإجراءات المحددة للعلاقات وأساليب العمل وفق أحدث نظم الإدارة، ‏وهو نظام الجودة الشاملة ‏Total Quality، بالطبع مع بقاء العناصر الثلاثة الأخرى على حالها، وأخطرها كل من ‏العنصر البشرى ‏human resources‏ والفكر ‏software‏. كانت النتيجة- رغم حصول الشركة بالفعل على شهادة ‏الأيزو ‏ISO‏ باعتماد من شركة عالمية متخصصة- صفرا كبيرا، وبقيت نظم الأيزو المفروضة مجرد أوراق يتم تلفيقها ‏على عجل، قبيل كل تفتيش دورى من الشركة المعتمدة للشهادة، وظلت النظم والقواعد القديمة هى المطبقة فعلياً على ‏أرض الواقع، تحت حراسة ورعاية كل من العنصر البشرى ‏human resources المتخلف، والفكر ‏software‏ الأشد ‏تخلفاً.‏

الحماسة إذن والشعارات والصراخ والمظاهرات قد تقلب أو تهدم نظاماً، لكنها غير قادرة على تأسيس واقع جديد أكثر ‏تحضراً. فالجديد المأمول إن لم تتوفر مقوماته لن نناله أبداً، وهى تلك العناصر الأربعة التى لابد أن تتغير معاً، لتكون ‏متوافقة ‏compatible‏ ومن ثم قادرة على العمل المتناغم.‏

نقول هذا تنبيهاً وتحسباً لتطلعات المستقبل، لأن الربيع المصرى فى 2011 فى سعيه للتغيير لم يتخلص فقط من بعض ‏من العناصر الأربعة سابقة الذكر، لتحل محلها عناصر جيدة منفردة، وترك بقية العناصر على حالها ففشل التغيير، ‏ولكن ما حدث هو أننا وضعنا رموز النظام القديم فى السجن، وأتينا أولاً عبر انتخابات ديمقراطية برموز جديدة من أهل ‏التقوى والورع الدينى، والذين ربما يعرفون فقط وحصرياً معالم الطريق إلى جنة الخلد فى الحياة الآخرة، ثم استبدلناهم ‏عبر ثورة أخرى، أتت بمن ربما قد نثق فقط وحصرياً فى مقدرتهم على قيادة الدبابات وإطلاق الصواريخ وتحريك ‏الأساطيل والطائرات فى أزمنة الحرب. وكلا التغييرين ببساطة كان تغييراً لعنصر واحد هو العنصر البشرى ‏human ‎resources، وتصادف لسوء الحظ أن كان التغير للأسوأ وليس للأفضل!.

كمال غبريال

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية