فى سبتمبر 1997 انشغل العالم بمحاولة اغتيال مدير المكتب السياسى لحركة حماس الفلسطينية خالد مشعل فى الأردن على يد عملاء لجهاز الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد). وبذل العاهل الأردنى الراحل الملك حسين بن طلال ضغوطا شديدة على الحكومة الإسرائيلية لإجبارها على إرسال الترياق اللازم لإنقاذ مشعل من الموت.
وهو ما كان. ولكن فى الشهر نفسه، وضع عدد من قدامى مسؤولى الموساد الإسرائيلى نواة خطة مجنونة لإنقاذ الجاسوس الإسرائيلى عزام عزام الذى تم القبض عليه مساء 23 أكتوبر 1996، وألقى به فى احد السجون المصرية بعد إدانته بتهمة التجسس لصالح إسرائيل.
كانت البداية ذات يوم جمعة فى شهر سبتمبر من عام 1997، فى إطار «مجلس البيرة»، وفقا للقب الذى أطلقه المشاركون فى هذا المجلس، الذى كان يضم مجموعة من الإسرائيليين الذين أحيلوا إلى التقاعد بعد خدمة فى القوات الخاصة بجيش الاحتلال وأجهزة الأمن الإسرائيلية، اعتادوا الجلوس على مقهى «دافوش» على شاطئ هرتزليا. تحول هذا المجلس إلى عادة لدى كل المشاركين فيه، بعد استمراره لما يزيد على 10 سنوات، حيث يجتمع هؤلاء العسكريون السابقون بعد ظهر كل يوم جمعة. وكان عددهم يتراوح فى كل مرة بين 20 و50 شخصا.
فى هذا المقهى المطل على الشاطئ، كان هؤلاء الضباط الإسرائيليون السابقون يقضون ساعات طويلة فى تناول البيرة، الزجاجة تلو الأخرى، بينما يستعيدون ذكرياتهم والأحداث التى مروا بها خلال خدمتهم بجيش الاحتلال، وكان الحديث يمتد لتحليل الأوضاع فى إسرائيل، لا سيما من الناحيتين السياسية والأمنية.
من بين أعضاء مجلس البيرة كان هناك رجل فى الثانية والخمسين من عمره، متوسط الطول، عريض الكتفين، مع خصلات شعر بيضاء تعلو رأسه. ويرمز لهذا الرجل بالحرفين «م. هـ»، باعتباره كودا سريا، وليس إشارة إلى أول حرفين من اسمه الحقيقى. ولم يكشف الإسرائيليون عن اسمه أو هويته لأنه ما زال ينفذ عمليات سرية واستخباراتية لصالح إسرائيل رغم ما يقال عن إحالته للتقاعد.
خلافا لكل أعضاء مجلس البيرة لم يبق «م.هـ» أسير ماضيه وذكرياته العسكرية، فقد أحب جدا الفترة التى عمل خلالها فى الأركان العامة بالجيش الإسرائيلى، وبعد ذلك فى جهاز «الشاباك» الذى يعد جهاز الاستخبارات الداخلية أو جهاز الأمن العام فى إسرائيل، بما يمكن أن يعد مقابلا لجهاز أمن الدولة والمباحث فى مصر. ولكن بعد انتهاء تلك الفترة قرر «م.هـ» أن يشد خطا تحت هذه الفترة ليواصل حياته.
خلافا لكثير من أصدقائه الذين خدموا لسنوات طويلة فى المؤسسات الأمنية والعسكرية كان انتقاله وهو فى الثانية والخمسين من عمره من الحياة العسكرية والأمنية إلى الحياة المدنية انتقالا جزئيا ومريحا، فبعد 7 أشهر ونصف من إنهائه صفحة العمل العسكرى والأمنى الطويلة فى حياته، وجد نفسه يترأس وحدة التدريب فى واحدة من شركات الأمن والحراسة الكبرى فى إسرائيل.
كانت الأمور تسير على منوالها المعتاد حتى جاء يوم جمعة مشمس. وكالعادة تشابكت خيوط الحديث بين الرفاق فى «مجلس البيرة»، حتى دخل الجالسون فى موضوع الجاسوس عزام عزام. لم يشارك «م.هـ» فى ذلك الموضوع لأنه لم يكن متابعا ولا ملما بتفاصيله. فاكتفى بأن يسمع وينصت. وما إن عاد إلى منزله حتى وجد عبارة واحدة ترن فى أذنيه: «لا بد من إنقاذ عزام ولو بالقوة». فسارع إلى الدخول على شبكة الإنترنت لجمع كل المعلومات المتاحة عن قضية عزام. وبعد ذلك أجرى عدة مكالمات هاتفية مع أصدقاء قدامى له، ما زالوا بالخدمة فى عدد من الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية كى يطلع منهم على حقيقة الوضع ومجريات الأمور بالتفصيل فى القضية.
بعد عدة أيام من جمع المعلومات، وبعد حيرة كبيرة، قرر «م. هـ» أن يعرض الأمر على مساعده المخلص الذى كان بمثابة يده اليمنى طوال فترة خدمته فى الوحدة، والذى أطلق عليه الجميع لقب «الدماغ» بفضل ذكائه ومواهبه وأفكاره الإبداعية فى تنفيذ العمليات السرية.
- «ما رأيك فى أن تأتى لتشاركنى اللعب فى خيالى؟»
■ «وماذا يعنى ذلك؟»
- «تعال وخصص لى ساعة من وقتك. فأنا أستمتع بالتفكير فى موضوع ما، وأريد أن تشاركنى فيه. ولا تنس أن تشغل لى دماغك يا صديقى «الدماغ»!»
خلافا لكل المتقاعدين من وحدة القوات الخاصة بالجيش الإسرائيلى، الذين اختاروا العمل بالقرب من ماضيهم فى شركات تأمين وحراسة، قرر «الدماغ» أن يتجه إلى السلك الأكاديمى. وخلال وقت قصير نسبيا أصبح «الدماغ» رئيس قسم بإحدى الكليات الإقليمية فى وسط إسرائيل.
التقى الاثنان فى موعد متفق عليه، وبدت علامات الحماسة واللهفة تتزايد على وجه «الدماغ» بينما كان «م. هـ» يحكى له عن طبيعة الأفكار التى تراوده لتهريب الجاسوس عزام عزام من سجنه فى مصر بالقوة المسلحة! وبعد ذلك اللقاء بيومين وضع «الدماغ» ملفا استخباراتيا به كل المعلومات النوعية المتعلقة بعناصر السجن الذى يقبع فيه عزام، بما فى ذلك: الظروف والأجواء التى تحيط بالجاسوس عزام فى سجنه بليمان طرة، والأوقات التى يزوره فيها أفراد أسرته، حالة القوة البشرية فى السجن، خطة للمنطقة، وما إلى ذلك من التفاصيل.
وبعد أن بات فى أيديهما معلومات أساسية بدأ الاثنان فى وضع السيناريوهات الممكنة لتهريب الجاسوس من سجنه. واتفقا على أن يفكرا فى الأمر أولا من جانب نظرى بحت لا علاقة له بالواقع، وبعيدا عن أى عوائق سياسية أو عسكرية قد تعرقل تفكيرهما. وبدا الأمر أكثر تعقيدا مما كانا يظنان، حتى تصورا فى كثير من الأوقات أنها عملية غير قابلة للتطبيق على أرض الواقع. لكنهما عكفا هذه المرة على تحليل كل الخيارات المتاحة أمامهما، ووضعا إلى جانبها كل علامات الاستفهام المتعلقة بها. وبسرعة شديدة تبين أن علامات الاستفهام التى أمامهما كثيرة وكبيرة جدا!
كلما تعمقا فى التفكير وتحليل الموقف، لا يجدان سوى خيار وحيد قابل للتنفيذ وهو تنفيذ عملية عسكرية لإنقاذ عزام من السجن. ووفقا للسيناريو الذى بدا لهم أكثر واقعية، سيقوم واحد أو اثنان من قوات الكوماندوز الإسرائيلية بزيارة عزام فى سجنه برفقة مسؤولى السفارة الإسرائيلية فى القاهرة، أو استبدالهما باثنين من أفراد أسرة عزام.
ومن الحديث بشكل مباشر وغير مباشر مع مسؤولى السفارة الإسرائيلية بالقاهرة ومع أبناء أسرة عزام، علم «م.هـ» و«الدماغ» أن لقاءات زيارة عزام تتم فى مكتب نائب مدير السجن، فى مبنى الإدارة. وكان من بين الاحتمالات التى فحصها الاثنان دس واحد أو اثنين من قوات الكوماندوز الإسرائيلية فى واحدة من تلك الزيارات، ليقوم بفصل مبنى الإدارة عن عنابر المسجونين، عن طريق إغلاق البوابة الحديدية الفاصلة بين القطاعين، والقيام فى الوقت نفسه بفتح أبواب السجن أمام بقية أفراد قوة الكوماندوز الإسرائيلية التى ستتولى اقتحام السجن فى مصر.
ولكن هذه الأفكار أزيلت من فوق طاولة المناقشات بنفس السرعة التى وضعت بها. أما الأسباب فكانت تتلخص فى أن اندساس أى من قوات الكوماندوز بين أفراد السفارة الإسرائيلية فى القاهرة يعنى تورط الحكومة الإسرائيلية أمام العالم كله فى تلك العملية، الأمر الذى قد يصل به التصعيد إلى حد المواجهة العسكرية واندلاع الحرب بين مصر وإسرائيل مجددا، بسبب ما ستعتبره مصر تعديا سافرا عليها.