x

صلاح فضل «مصائر» الشتات الفلسطينى فى رواية المدهون صلاح فضل الأحد 12-06-2016 21:56


مريرة وموجعة، معقدة ومزمنة، تلك حيوات الشعب الفلسطينى الشريد، موزع بين من يتوق لعودة مستحيلة، وآخر «باقى هناك» يحاول ترميم جذوره وترسيخ هويته المخلوعة، موضوع رواية ربعى المدهون التى ظفرت بجائزة البوكر هذا العام بعنوان «مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة»، تعرض فجيعة الجيل الثانى من أبناء فلسطين المغتربين والمقيمين كرهاً على ضفتى الأرض المستوطنة بالعنصرية. يجترح المؤلف فيها تقنية مبتكرة، تتمثل فى «توليف النص فى قالب الكونشرتو المكون من أربع حركات، تشغل كل منها حكاية تنهض على بطلين اثنين: يتحركان فى فضائهما الخاص، قبل أن يتحولا إلى شخصيتين ثانويتين فى الحركة التالية، حيث يظهر بطلان رئيسيان آخران لحكاية أخرى»، ثم يذوبان فى الحركة الثالثة فى حضور أقربائهما وأصدقائهما من الأبطال الجدد، وينتهى الجميع فى الحركة الرابعة والأخيرة إلى نقطة البداية ليصبح محور العمل كله هو العودة المستحيلة والأرض المغتربة وأشباح حروب الإبادة اليهودية والفلسطينية الماحقة.

ولأن فن الرواية قد أصبح مجمع الفنون ومصب أنساقها الجمالية، حيث تتوارد عليه التقنيات والأصوات والإيقاعات المختلفة، فإن استعارة شكل الكونشرتو الموسيقى المكون فى الأغلب من ثلاثة أجزاء تلعب فيها آلتا الكمان والفلوت الدور الرئيسى بجانب الفرقة الموسيقية، وتتراوح أجزاؤه بين السرعة الأولية ثم الهدوء الناعم قبل العودة للإيقاع اللاهث، هذا الشكل يلائم الرواية التى تلعب فيها النماذج البشرية والأصوات المتعددة دور الآلات الموسيقية فى جوقة الحياة.

بيد أن الأنغام التى تنبعث من رواية المدهون مشحونة كلها بالشجن والأسى والحسرة، لا تسمح بالتنويع البهيج ولا المزج الرائق بين الفرح والحزن، حيث يطوى الكاتب بسرعة ما قد يتيح له فرصة الغوص فى ترانيم العواطف السارة، فيبدأ بقصة عشق مبتسرة بين مراهقة أرمينية فلسطينية هى «إيفانا» التى تخرج على تقاليد حارة الفاخورة فى عكا وتقع فى هوى ضابط إنجليزى هو «جون» من أول ابتسامة، بل تهرب معه بعد سطور قليلة ليقيم لها حفل زواج سريع فى معسكره الأيام الأخيرة للانتداب البريطانى، وترحل إلى إنجلترا إثر نكبة 1948 بعد أن أنجبت منه فتاة ورثت لون عينيه البنية، لكننا لا نتعرف على هذه القصة وهى تحدث، بل فى آخر اجتماع تعقده إيفانا وأسرتها ومحاميها كى توصيهم بحرق جثتها بعد وفاتها وذرو قدر من رمادها على نهر التايمز حيث عاشت عمرها الطويل، ووضع الجزء الآخر من رمادها فى قنينة خزفية تسد أيقونتها الأنيقة لإيداعها فيما عساه أن يكون قد تبقى من منزل الجد فى عكا وفى أحد بيوت القدس القديمة.

هذه الوصية التى تتطلب رحلة العودة من الابنة وزوجها إلى الأرض المحتلة هى الخيط الناظم لهذا اللحن الجنائزى الممتد بحنينه وعويله معاً. ولأن زوج الابنة نصف الإنجليزية «جولى» هو «وليد دهمان» سليل الأسرة العريقة المجدلية، مثل المؤلف الذى وُلد هناك قبل أن يتم تهجيره فى طفولته إلى معسكر خان يونس بغزة، فإن أشواقه تنهمر بعرامة عندما يذهب بالزوجين إلى مدينة المجدل/ عسقلان، يرصد تحولاتها الجذرية وكيفية مسح معالمها الوطنية حتى تصبح أثراً بعد عين، ويقف يقرأ لوحة معلقة على أحد بيوتها الأثرية كأنه شاهد على عملية المسخ والتهويد، وهو بيت «عروس» آخر البيوت الخاصة فى حارة دهمان، يعد نموذجاً للبيوت العربية المميزة، وقد بنى بحيث تتوسطه ساحة تسمى «الحوش» (فى العرف الأندلسى تسمى البابتو) تحيط بها غرف النوم عادة، ولم يزل البيت يحتفظ بالوسائل التقنية التقليدية التى اعتمد عليها السكان العرب فى حياتهم، مثل معصرة الزيتون، وجاروشة (رحى) طحن القمح والحبوب، وطابون (فرن) الخبز، ومخزن الحبوب والغلة الواقع فى الطابق الأرضى. وعندما يدفعه الحنين لطرق باب البيت يرد عليه صوت نسائى متوجس بخليط من العبرية والعربية المكسرة، ليهودية يمنية تسمى رومة العروسى، ورثت بيت آل دهمان وحافظت على ملامحه القديمة، لكن ما يفتن القارئ فى أسلوب الرواية هو قدرة المبدع على تجسيد روح المكان ورنين الزمان فى اللهجة المهجنة المغتربة، للمقيمين أو الزوار المتواطئين معهم، كما تتجلى فى الحوارات الشائعة. فى هذه اللهجة التى تسرى فى العمل كله تبرز المفارقات المسنونة والتناقضات المثيرة فى أوضاع المتحاورين وعوالمهم المتضاربة، مما يصل فى أحيان كثيرة إلى منطقة الفكاهة الدامعة، هذه اللغة التى يعجنها ربعى المدهون ويخبزها فى طابونة الروائى بمهارة فائقة هى الأقدر على تمثيل عذابات الشتات الفلسطينى الموزع على الأمكنة والأجيال والثقافات برهافة شعرية فائقة.

العالم الافتراضى:

يلعب العالم الافتراضى والمتخيل الروائى الدور البارز فى هذه الجديلة السردية، فجنين وباسم بطلا الحركة الثانية يتعرفان على بعضهما عبر البوابة الإلكترونية قبل أن يقررا العودة من الولايات المتحدة لفلسطين، حيث تتمكن الزوجة من تثبيت قدميها وتشرع فى كتابة روايتها بعنوان «فلسطينى تيس» تقصد بطلها محمود دهمان العنيد الذى يصر على إثبات وجوده وتجذير كيانه وهويته فى الداخل فى حيفا حتى يلقب «باقى هناك» أما زوجها باسم فيعجز عن الحصول على إذن بالعمل ويصرخ فى زوجته المحبوبة «حياتى يا جنين صارت لعبة كمبيوتر، عايش فى بلدنا كأنى مواطن افتراضى، موجود فى السجلات الرسمية، فى الداخلية والأمن وربما الموساد، على الحواجز وفى مراكز الشرطة، بس مش موجود فى المؤسسات الحقوقية ولا الخدمات الصحية والاجتماعية، حتى أنت يا جنين حاضرة غايبة زى كل الفلسطينيين فى ها البلاد، بس أنا غايب غايب، أنا دعوة لتعذيب الذات».

أما محمود دهمان فقد صار بإصراره أسطورة حية، كثيرون سبوه ولعنوه، مندهشين من قدرته على العيش بين اليهود، وآخرون حسدوه على جنسيته الإسرائيلية التى ليس لهم مثلها، بعضهم قال: أحسن ميت ألف مرة من الهجرة والشحططة والمرمطة، وبعضهم قال بعصبية تقليدية «علىَّ الطلاق بالثلاثة العيشة تحت حكم إسرائيل أحسن من حكم الإدارة العسكرية المصرية فى غزة اللى موريانا نجوم الظهر»، طبعاً كان هذا قبل حرب 1967، المهم أن «باقى هناك» يمثل عرب 48 فى الداخل، يرصد الكاتب بدقة تناقض مشاعره فى علاقته بجارته اليهودية المجنونة من أعقاب الهولوكوست الألمانى، وكيف سامحها بعد أن سكبت البترول على جداره لتحرق منزله، وأصبح هو الذى ينجدها فى نوباتها الهستيرية، ولنتأمل موقفه الدال عندما نال إيميل حبيبى جائزة الدولة الإسرائيلية للآداب عام 1992 وتسلمها من رئيس الحكومة آنذاك إسحق شامير فى احتفال رسمى، «فرح باقى هناك وقال: الرفيق أبوسلام تفوق على أدبائهم.. رفع رأسنا لفوق فوق، بس أوطى من العلم الإسرائيلى اللى مش تحته وخلاه أعلى من رؤوسنا كلنا». هذا الحس الشعبى الحكيم البليغ فى تعبيره يبرز رؤية الكاتب لهذه العلاقة المعقدة.

ومن أبرز مظاهر هذا الحس الافتراضى فى بنية الرواية أن المؤلف يقيم الحركة الرابعة أو الفصل الرابع منها على أحد احتمالين يترتب عليهما اختلاف المسارات والمصائر؛ فإما أن يذهب مركب الزوجين إلى حيفا أو يذهب إلى القدس، حيث يتبادل الاحتمالان الوقوع على التوالى فتنقسم الرواية إلى شعبتين لكل منهما لذتها ومتعتها ودلالتها، حيث ترفض السيدة التى تقيم فى بيت الجد فى حيفا قنينة الرفات وتقذف بها فى الشارع، بينما تتقبل الأسرة المقدسية الفلسطينية الأصل وضع القنينة فى مقتنياتها المتحفية، فيختلف المصير فى رمزيته. ومن الطريف أن يتجول الكاتب فى روايته بشخصيته وذكرياته على سبيل التجريب السردى، فالراوى يحكى قصة لقائه فى مطار القاهرة براكب تصحبه زوجته الأنيقة دائماً، يقرأ فى صحيفة القدس العربى مقالاً لربعى المدهون بعنوان «لا تصدقوهم، لم ينسونى بعد أربعين عاماً»، فيستنتج أنه هو الكاتب، ثم لا يلبث أن يؤكد ذلك خلال تعرضه للمساءلة من أجهزة الأمن المصرية التى ثبت لها أنه مطلوب منذ تم ترحيله مطلع السبعينيات خلال دراسته فى جامعة الإسكندرية لأسباب سياسية أصبح يفخر بها، فانتقل ملفه الأمنى من الأضابير الورقية إلى الكمبيوتر، وأصبح على حد تعبيره «مطلوب ديجيتال». وأعتقد أن ظلال الواقع التوثيقى تتراءى فى هذا المشهد مع شخصية المؤلف نفسه، كما أحسب أنه يتعين عليه فى أحد مشاهد رواياته المقبلة أن يسجل أيضاً احتضان مطار القاهرة له أخيراً وترحيبه به عند حضوره منذ فترة وجيزة مؤتمر تجديد الخطاب الثقافى، مما يوحى بأن كثيراً من النماذج والمواقف التى تسجلها هذه الرواية ليست من ورق كما نتوهم، بل هى من لحم الواقع ودمه القانى، من خبرات الشتات ومعاناة العذاب، ومن التاريخ التخييلى الأصدق والأجمل، والرؤية المجسدة للوعى والوجود والهوية.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية