منذ سنوات وأنا أراهن فى كل رمضان على كاتب متميز هو عبدالرحيم كمال، وفى كل رمضان لا يخيّب عبدالرحيم كمال رهاناتى، خاصة بعد أن شكّل هو ويحيى الفخرانى ثنائياً رمضانياً من طراز نادر يمكن أن نضيف إليه ضلعاً ثالثاً هو المخرج شادى الفخرانى الذى أثبت أنه جدير بهذا الوصف بعد أن أخرج مسلسل «الخواجة عبدالقادر» عام 2012، ثم «دهشة» عام 2014، ثم مسلسل «ونوس» الذى عرضت منه هذا العام خمس حلقات حتى كتابة هذه السطور، وبالرغم من أن الوقت مازال مبكراً للحكم على هذا العمل (وهو أحد عملين قدمهما عبدالرحيم كمال هذا العام) إلا أن الحلقات التى شاهدتها كافية جداً فيما أتصور للقول بأنه قد استطاع بالتناغم مع الضلعين الآخرين أن يقدم عملاً شديد الجاذبية وشديد العمق فى آن واحد شأنه فى ذلك شأن العملين السابقين «دهشة» و«الخواجة عبدالقادر»، واللذين تبدى فيهما عنصرا الجاذبية والعمق منذ حلقاتهما الأولى!..
إن شخصية ونوس (يحيى الفخرانى) الذى يقتحم حياة أسرة «ياقوت» (نبيل الحلفاوى) محاولا إقناعها أو ربما «إغواءها» لكى تنضم إليه فى الضغط على ياقوت صديق عمره وشريكه فى ملكية القصر الذى أوصى به أصحابه الخواجات لكى تؤول ملكيته من بعدهم إلى ساكنى حديقته من طباخين وسفرجية، وهؤلاء، كما نعرف من كلام ونوس، هما والده ووالد ياقوت اللذين توفيا فآلت إليهما بالتالى ملكية ذلك القصر، لكن الدولة استولت عليه وادعت أنه من أملاكها فقاما برفع قضية على الحكومة تولى عبئها الأساس ونوس بعد أن زهد ياقوت فى كل شىء بما فى ذلك عائلته التى هجرها، وبعد سنوات طويلة تم كسب القضية، والمطلوب الآن من عائلة ياقوت أن تتحرك للبحث عن رب العائلة التى تركها منذ عشرين عاماً من أجل الضغط عليه حتى لا يتقاعس فى الإقرار بنصيبه من الثروة والحصول عليها إن لم يكن من أجل أبنائه، فعلى الأقل حتى لا يذهب تعب صديقه ونوس هدراً !!!.. إن ونوس يقتحم حياة الأسرة بحجة أنها سوف يجلب لها كنزاً متمثلاً فى القصر ذى الحديقة، لكنه لا يخفى إطلاقاً أنه يعمل أساساً من أجل نفسه، وكأنه هو النفس الإنسانية ذاتها بكل ما تنطوى عليه من طمع فى الدنيا وتكالب عليها، لكنها لا تخلو فى الوقت ذاته من حب الخير للناس متى توافق هذا الخير مع خيرها الخاص.. إن شخصية ونوس تبدو فى العمل وكأنها مزيج متناغم من تكوين الشياطين وطبيعة الملائكة وإن كان إلى الشياطين أقرب.. فهو مثلاً عندما يرى أحد المعلمين يعطى واحداً من صبيته نقوطاً لكى يوصله إلى راقصة لا يتورع أن ينشل النقوط من الصبى، لكى يقوم هو بإعطائه بنفسه إلى الراقصة!!، وهو يقدم من سرعة عداد التاكسى خدمة لعزيز بن ياقوت الذى يعمل سائقاً، إنصافاً له من (إجحاف الركاب)، وهو يتودد إلى صاحبة ملهى ليلى لكى تسمح لنبيل بالغناء فى ملهاها!!، وهو يتقرب إلى فاروق الذى هو مجرد راغب فى أن يكون إماماً للمصلين، يتقرب إليه موهماً إياه بأنه (أى فاروق) داعية متفقه فى الدين يتعيّن على المريدين إجلاله وتقبيل يديه لعلمه الغزير!!..
إن ونوس شخصية مركّبة غنية بالإيحاءات والدلالات التى جسدها يحيى الفخرانى بكل اقتدار، فهو فى الوقت الذى يقنعك فيه بأنه مجرد إنسان تنطوى نفسه على كل ما تنطوى عليه النفس الإنسانية من خبائث وطيبات، يظل طيلة الوقت يصدر شحنات متعاقبة من الرسائل التى تشعر المشاهد بأنه ينتمى إلى عالم سحرى خفى يتجاوز ما هو مألوف بالنسبة للبشر.