لم يكن أسامة كمال يحاور الرئيس السيسي، ما فعله، في مفهوم المهنة، ليس حوارًا، إنما هو استضافة يَدّعي فيها الإعلامي أنه يحاور ضيفه بينما هو في الحقيقة يُروّج له عبر مقدمات تبريرية تُمهد لما هو متوقع منه قوله ليبدو ما يقوله كأنه رد على سؤال. دور المحاور الرئيسي -بعد البحث والتجهيز وتحديد المحاور توجيه أسئلة للضيف تكشف عن أفكاره واستيقاف الفكرة التي لا تبدو منطقية لعرضها على العقل وفحصها من خلال أسئلة أخرى، أو تطوير الحوار إلى مناطق أخرى حين يتم استيفاء الأمر بشكل أو بآخر أو حين يتعذر الوصول إلى ما هو أكثر. وفي كل الأحوال يُنتظر من المحاور الجيد أن يعبر عن وجهة النظر الغائبة ويطرح تساؤلاتها. لم يفعل أسامة كمال أيًا من ذلك، وعندما بدا لي أنه سوف يقاطع الضيف ليطرح سؤالًا فوجئت أنه لم يفعل سوى ما فعله من قبل؛ فتح باب الكلام، فبعد أن قال الرئيس السيسي: «اوعوا تتصوروا إننا هنوصل للمعدلات العالمية»، صمت قليلًا وبدا أنه يفكر في كيفية استكمال هذه الجملة، وهو ما قدمه له المضيف بسخاء وكأنه يسأل: «نهائيًا يافندم؟ وإلا قصدك في القريب العاجل؟»، فيلتقط الرئيس الفكرة ويتابع:«يعني قصدي... مش بين يوم وليلة...».
قد يكون المونتاج والحذف والوصل الذي تم على الحوار هو السبب في ظهور الإعلامي أسامة كمال بمظهر الصحفي المتواضع الذي لا يملك أدواته، وقد يكون الأمر أكبر من إرادته، ولكن في كل الأحوال يجب أن يعرف المسؤولون عن إدارة الملف الإعلامي للرئيس السيسي أن هذه الطريقة في إدارة الحوارات لم تعد صالحة في الوصول إلى عقول الناس، من يؤيد الرئيس قبل من يعارضه يسعده أن يتابعه وهو يدير صراعًا فكريًا أمام خصم إعلامي حرّيف ومحترف، وليس مجرد «فتّاح أبواب كلام»، إجابات الرئيس السيسي نفسها التي تضمنها هذا الحوار كان من شأنها أن تحقق أثرًا كبيرًا من دون طنطنة إعلامية فارغة لو أنها جاءت عبر حوار حقيقي يتربص فيه المحاور بضيفه كما ينبغي للحوارات أن تكون.
قال الرئيس السيسي إن ثقافة التدخل المباشر لمنع الفساد التي يسعى لنشرها نجحت في توفير مبلغ يتراوح بين 200 إلى 300 مليار من مشروعات تمت خلال العامين الماضيين، ووصف تلك المشاريع بأنها «تمت طبقًا للقواعد المعمول بيها» بمعنى أن «كل الإجراءات صح» كما قال، وأضاف: «لكن لما اتّدخلنا ودقّقنا وحرصنا وضغطنا اتوفر على مدى السنتين اللي فاتوا الرقم ده». كلام جميل وكلام معقول، وفي الوقت نفسه يصعب التحقق من مدى دقته، ولكنه- على الأقل- يستدعي قدرًا من الفضول في عقل أي مستمع يريد أن يفهم أكثر، فما بالك بالمحاور! نريد مثلًا أن نعرف طبيعة هذا التدخل الذي وفر مليارات، وما تلك الجهات التي تدخلت وبأي صفة؟ يمكننا أن نسأل كذلك في أي مرحلة تم التدخل؟ هل في اختيار الشركات، أم في تحديد الأسعار، أم في ترسية المناقصات، أم في ماذا؟، وإذا كانت كل الأمور قانونية- حسب وصف الضيف- ألا يحق للمحاور أن يسأله ما مبرر التدخل؟، أما لو كان التوفير قد تم عبر كشف تلاعبات وفساد، فمن هم المتهمون وماذا حدث معهم؟. هذا مجرد محاولة للتفكير في ما قاله الضيف وإمكانية تطويره، وربما فعل أسامة كمال ذلك ولم نره، وربما لم يسعفه الوقت أو الظروف. في رده على سؤال رآه غير مهم قرر الرئيس أن يجيب «بطريقة مختلفة» على حد تعبيره وهي طريقة لطيفة لإبداء عدم رضاه عن التساؤل، في إجابته الجديدة تحدث عن «محاولات لاستهداف مؤسسات الدولة، كل مؤسسة على حدة» مؤكدًا أن هذا الأمر أثار قلقه، وأضاف متعجبًا: «الله، انتوا بتمسكوا مؤسسة مؤسسة تضعفوا من قدراتها وتضعفوا من معنوياتها،... ليه؟».. لم يتبرع المُضيف بطلب أمثلة أو نماذج توضح طبيعة الاستهداف الذي يقصده الرئيس، كأنما الكل يعرفون ذلك، بل لم يتحرك فضوله المهني لسؤاله عن هؤلاء الغائبين المشار إليهم ضمنًا في حديثه باستهداف المؤسسات!. القاعدة تقول إن على المحاور أن يطرح سؤاله حتى لو كان هو شخصيًا يعرف، فهي ليست جلسة خاصة، إنما مهمة عمل دوره فيها كإعلامي أن يستخرج الإجابات للناس، لم يسأل أسامة كمال بالطبع، وبذلك ظل مصطلح «استهداف المؤسسات» مفتوحًا على التخيل، وظل الفاعل المبني للمجهول مجهولًا يمكن تأويله، ولم يضع المضيف ضيفه في حرج التصريح عنه. الأدهى من ذلك أن المحاور راح يجاري الضيف ببساطة شديدة في تأكيد التهمة على هذا المجهول (.. .)، فعندما أضاف الرئيس في النقطة ذاتها مستنكرًا: «هي الثورة اللي اتعملت، مش اتعملت عشان نعيد مرة تانيه بناء الدولة ديّه بمؤسسات جيدة!... طب احناااا... دااا بيتم، أو... تم، ليه محاولة استهداف مؤسسات الدولة مؤسسة مؤسسة؟» ورغم أن سؤال الرئيس لم يكن استفهاميًا ولم يكن بالطبع موجهًا للمحاور إلا أن أسامة كمال سارع بالقول مستنكرًا: «عشان نعيد العجلة تاني...» دعك من الأسئلة المدرسية من قبيل سؤاله حول إحساسه وهو يؤدي اليمين الدستورية، أو “الليلة اللي قبلها قعدت تصلي أد إيه؟” فلا بأس بها من باب “التحابيش” إذا كان الحوار “ضرب نار”. الأصل في عقد الحوار مع إي مسؤول أن يُسأل، والسؤال ليس إهانة، إنما هو وسيلة للمعرفة والحصول على إجابات، ومنطق الحوار الصحفي أو الإعلامي يختلف عن منطق الدعاية، فالصحفي يبحث عن النواقص لاستكمالها بالتساؤلات وعن الغامض لتوضيحه بالاستفسارات. بقدر ما أثار مشروع حفر قناة السويس «الجديدة» من اهتمام في الشارع فور الإعلان عنه، فقد أثار أيضًا الكثير من التحفظات، أضيف إليها ما أثير بعد اكتماله وتشغيله من عدم تحقيقه الأهداف الرئيسية التي أنشئ لأجلها، ترك المضيف أسامة كمال كل هذه المداخل وفوت فرصة مناقشتها مع الرئيس... لم يسأله عن دراسات الجدوى التي قيل إنها لم تتم بشكل كاف وإذا كانت موجودة من عدمه، لم يسأله عن مدى صحة التحفظات الهندسية والاقتصادية التي أثيرت وقتها، لم يسأله عما إذا كانت القناة قد حققت ما استهدفته بعد مرور سنة على افتتاحها، لم يسأله عما يشاع حول عدم توريد دخل قناة السويس إلى ميزانية الدولة، وكلها أسئلة كنا سنسعد- مؤيدين ومعارضين- لو سمعنا إجاباتها من رئيس الجمهورية، لم يسأل أسامة كمال عن أي من هذا، واكتفى بسؤال أضع هنا صيغته كما هي: «فخامة الرئيس، حضرتك دخلت واقتحمت..، يعني... ثمانية ستة، كناااا خمسة أغسطس مع حضرتك في قناة السويس، إيه الاقتحام ده! السريع ده! لمشروع بالحجم ده!... ليه؟... إزاي؟» وهي صيغة في الحقيقة تغنيني عن الوقوف -لا طويلًا ولا قصيرًا- أمام إجابة فخامة الرئيس، فهو في النهاية ضيف ومن حقه أن يكتفي بما يريد قوله ما لم يُجبره مضيفه بمهنيته ومراجعته أو استيضاحاته على قول المزيد، وهو ما لم يفعله أسامة كمال بل إنه لعب دور “صدى الصوت” الذي يستكمل فكرة ضيفه ويعيد تسليمها له بغلاف أنيق وهو ما حدث في النقطة التالية لها. تحدث الرئيس السيسي- وكلامه لا يخلو من المنطق- عن ضرورة عدم تحميل كامل الكلفة المضاعفة لإنجاز مشروع قناة السويس الجديدة نتيجة لاختصار المدة على محمل اقتصادي بحت، بل يجب مراعاة أهداف أخرى يراها مهمة منها رفع الروح المعنوية للمصريين وإعادة ثقتهم في ذاتهم... إلى آخر ذلك من منطق يمكن قبوله. كان على المحاور هنا- بغض الطرف عن قناعته الشخصية- أن يمثل الرأي الآخر، وتخوفات البعض أو عدم تصديقهم، لكنه على العكس من ذلك تبرع بإعادة صياغة الفكرة وترويجها بعبارات أخرى تشبه صدى صوت الضيف. آلية “صدى الصوت” هذه هي نفسها التي استخدمها في التمهيد لسؤاله التالي عن مشروع جبل الجلالة الذي راح يصف منبهرًا كيف أن الناس حولوه من “جبل عالي جدا” إلى “وادي سحيق جدا”، ويصف فخر الناس بذلك، وأنهم 30 شركة يعملون هناك... و... و... إلى أن فقد وجهة السؤال فقال: «إزاي ننقل من هذا النموذج لذلك النموذج!”. أمام سؤال كهذا اضطر الرئيس- وهي ليست المرة الأولى- أن يجيب عن شىء آخر، مفتتحًا إجابته بتمهيد لطيف يسمح له بفعل ذلك من دون أن يقول للمضيف: «عايز تقول إيه يعني؟»، في المرة السابقة قال له: «خليني أجاوب السؤال ده بطريقة مختلفة خالص»، هذه المرة قال له: «طاب أنا خلليني أقولك...»، ثم أخذ هو دور المحاور وقال: “تفتكر يا ترى حجم الشركات العاملة في مشاريع على امتداد مصر قد إيه؟ «قبل أن يقدم عرضا إحصائيا سريعا لعدد الشركات العاملة في مشاريع الدولة (1000 شركة) وحجم العمالة المصرية العاملة بها (أكثر من 2 مليون إنسان) وهو الأمر الذي يحدث منذ سنتين وسوف يستمر السنتين المقبلتين ومرشح للزيادة. وهي معلومات –على أهميتها- لا علاقة لها بسؤال كمال إن كان هناك سؤال من الأساس، لكن الرئيس استغل بذكاء فراغ المساحة لينتقل بالحوار إلى ما يريده هو وليس المُحاور. المرة اليتيمة التي ظننت فيها أن المُضيف سوف يعبر بسؤاله عن قلق الناس بما يشي بتنمره وانتظاره الفرصة ليلقي بما يقوله الناس عن “سيطرة الجيش على مشاريع البلد”، اكتشفت أنه مجرد تطوير لآلية “صدى الصوت” فقط استخدم المعلومة في صياغة فكرة تخدم تصوره، ويمكنني صياغتها كالتالي: « إذا كنت حضرتك بتقول إن 1000 شركة و2 مليون مواطن مصري بيشتغلوا في مشاريع الدولة الكبرى، يبقى ليه الناس –المغرضين طبعًا- بيقولوا إن الجيش هو اللي بيعمل كل حاجة!، «في الواقع كانت إجابة الرئيس منطقية للغاية، حين أكد لمحاوره أن علاقة القوات المسلحة بهذه المشاريع تتمثل في الهيئة الهندسية باعتبارها جهة إشراف ورقابة لضمان الإنجاز بالمواصفات المطلوبة وفي المدد المحددة، بينما الشركات والعمال مدنيون،... إلخ. بعيدًا عن كون هذه الإجابة وعدد لا بأس به من إجابات الرئيس السيسي في هذه “الاستضافة” كان منطقيًا، إلا أن الوصول إلى هذه الإجابات لم يكن مهنيًا كما أن المضيف فوت فرصًا كثيرة لفحص هذه الإجابات والذهاب معها إلى المدى اللازم لاختبارها، وهو الأمر الذي كان من شأنه أن يحقق مصالح الجميع، مصلحة الضيف في أن يبدو طرفا في حوار شائك طالما أنه واثق في ما يقول، ومصلحة الجمهور الذي يتابع ضيفًا يتعرض لاستجواب حرفي مهني محترم، ومصلحة المضيف الذي فقد فرصة كبرى لإدارة مثل هذا النوع من الحوارات. [email protected]