«أثر الشارع العربي وثقافة الشارع في السنوات الخمس المنصرمة، على الثقافة العربية في قلاعها التقليدية والحديثة».
إنه المحور الذي دعاني للكتابة فيه الصديق الشاعر نوري الجراح، مشكورًا بلا شك لحسن ظنه في شخصي المتواضع.
ولكن ما أصعبه من سؤال يا صديقي، وما أعقده من محور!
إن تفكيك مفرداته فقط قد يستغرق جهدًا لا بأس به، علينا أن نحدد بداية– لا أقول نتفق- معنى «الشارع» و«الثقافة»، ثم معنى «ثقافة الشارع»، ونحوم حول معنى «العربي» لنقف على دلالة الشارع العربي، ثم ننظر إلى الشق الآخر لنعرف ما الذي تعنيه «الثقافة العربية» ثم ما هي قلاعها التقليدية والحديثة؟!
هل ينبغي- من الأصل- أن تكون للأمة الواحدة ثقافتين منفصلتين تمام الانفصال إلى الحد الذي يدعو إلى مناقشة أثر واحدة في الأخرى؟
إذا كانت الثقافة هي مجمل الأفكار والمعتقدات متجلية في ما تسفر عنه من ممارسات ونظم لشعب ما في لحظة تاريخية ما، فلم، وكيف تستقل ثقافة داخل هذا المجمل؟
تستقل باختلاف موارد الفكر ومصادره، لا بأس إذن إن قلنا أن بعض الناس من هذا الشعب تختلف مصادر أفكارهم وموارد رؤاهم وتتاح لهم فرصة الاطلاع على ما لم تطلع عليه الأغلبية، فتصبح ثقافتهم مختلفة عن ثقافة المجموع.
ولكن إلى أي حد تظل هذا الثقافة المختلفة جزءًا «تطوَّرَ» من ثقافة الشعب؟ ومتى يمكن أن نسميها ثقافة أخرى؟ وهل يجوز أن نسميها ثقافة أخرى طالما أن أصحابها ينتمون إلى هذا الشعب؟
هل ينبغي أن نتحرى كذلك المبدأ الذي يمكن أن نحتكم إليه في تحديد فكرة الشعب أصلًا؛ هل هو مبدأ سياسي، أم جغرافي، أم إداري، أم فكري عقائدي، أم خليط من كل هذا، ومتى تضيق فكرة الشعب فيمكن أن نستخدم مصطلح الأمة؟
قبل أن نَعلق في هذا الفخ، دعوني أقول إنني سوف أتحدث عن «الشعب المصري» وهو «مجموع البشر الحاملين للجنسية المصرية المرتبطة مصالحهم بهذا الكيان السياسي الجغرافي المسمى مصر».
هذا الشعب المصري- مثله مثل غيره من البشر- لديه ثقافة، والمقصود بها هنا «القواسم المشتركة في الرؤى والأفكار والمعتقدات الحاكمة؛ أي التي تحكم سلوكياته وممارساته اليومية ونظمه الاجتماعية والإدارية وغيرها من أشكال الحياة فتطبعها بطابع خاص يميزها».
هذه الثقافة ليست ثابتة مستقرة، وإنما هي متغيرة ومتنامية بتعدد مشاربها العامة وزيادة روافدها التي يتسع أفقها يومًا بعد يوم، خاصة بعد انفتاح الفضاء الإعلامي وانكسار احتكار الحكومات له، وتعدد وسائل التواصل... إلخ.
كما أن هذه الثقافة ليس كتلة صماء إنما هي تعشيقات من ثقافات فرعية متعددة بينها الكثير من القواسم المشتركة بنسب مختلفة داخل الثقافة الكلية، و«ثقافة الشعب» هي تلك المساحة التي يمكن خلالها احترام هذا التعدد وتتجلى فيها قدرة الجموع على احترامه فيتحقق الغنى والتنوع.
إلى جوار ذلك فإن بعض هذا الشعب – لاختلاف الروافد أو تعارض المصالح– تتكون لديه أفكار أخرى حاكمة «أي تحكم منظومة سلوكياته فتطبعها بطابع مختلف عن النسق العام، وهو ليس اختلاف التنوع والتعدد، ولكنه اختلاف يستدعي إلغاء بعض مكونات الأول ليحل محله الآخر، وإلى أن يتحقق ذلك يحدث النزاع».
هنا نقف أمام كلمة «النزاع» لنفصل في طبيعته، ولكن علينا أن نعود للتذكير بالأسباب التي تؤدي إلى أن «بعض الشعب» تختلف ثقافته، والتي حصرتُها – بشكل مخلّ- في سببين: إما إختلاف الروافد، أو تعارض المصالح.
أبرز الأمثلة على اختلاف الروافد ما يحدث طبيعيًا بسبب التعليم بأنواعه وزيادة المعارف باختلاف طرق ذلك، وهو يحدث على نطاق واسع ولكن بأثر ضعيف يشبه التطور ولذلك فإنه لا يتسبب في نزاع واضح.
مثال آخر على اختلاف الروافد يحدث مع الفئات المصطلح على تسميتها بالنخبة من المثقفين والكتاب والمفكرين الذين بسبب تنوع مصادر معارفهم وزيادة اهتمامهم بالبحث في هذه المعارف وتشكيل رؤى ووجهات نظر، تختلف ثقافتهم عن الثقافة العامة للشعب بشكل واضح، ومع إيمانهم الكبير بما يحملون من رؤى وأفكار تبدأ رغبتهم في ترك أثر على ثقافة الشارع، وهي حالة من النزاع «الإيجابي» كانت وراء جُل دعوات التنوير والإصلاح، وكانت سببًا في انطلاق شرارات العديد من الثورات الاجتماعية والفكرية الكبرى.
ووصف النزاع هنا بالإيجابي راجع في المقام الأول إلى عدم وجود وصاية أو سطوة أو قمع من الفئة صاحبة الثقافة المختلفة- إذا جاز التعبير- بل هو جهد يشبه بذر البذور ورعايتها مع إيمان بأنها بلا شك سوف تثمر.
على الجانب الآخر من «اختلاف الروافد»، يقف «تعارض المصالح» كسبب من أسباب اختلاف ثقافة طبقة أو فئة من فئات الشعب عن الثقافة العامة بشكل يتسبب في النزاع، وهنا لا يمكن وصف نتائج النزاع بالإيجابية بأريحية كما فعلنا مع السبب السابق، وإن كانت بعض أشكاله يمكن وصفها بالإيجابي، مثال ذلك الإجراءات التنظيمية التي تقوم بها سلطة نافذة في المجتمع من أجل تحقيق مصلحة ما اجتماعية أو سياسية أو غيرهما، فتصبح بعد فرضها بقوة السلطة ومع الوقت والممارسة جزءًا من النسيج الثقافي للشارع.
ولكن هذه الآلية تحمل الكثير من السلبيات التي يمكن تلخيصها في استخدام طرف- أيًا كانت مرجعياته- سلطته في فرض منظومة القيم والأفكار التي تحقق رؤيته- على الآخرين عبر القوة ومراقبة ذلك وتحريه بالبطش والقمع إلى أن يصبح جزءًا من ثقافة الآخر.
وهو ما لا يقوم به فقط الحكام في سبيل التكريس لاستمرار حكمهم، بل تقوم به كذلك جماعات التطرف الديني والفكري انطلاقًا من يقين فاسد لا يسمح لهم بقبول التعدد والتنوع.
كما يدخل في ذلك كل ثقافة يحركها اليقين بتفردها إلى حد رفض أي تنوع، بما في ذلك ثقافة النخبة التي تحدثنا عنها من قبل؛ فكل ثقافة تخلت عن حالة النزاع الإيجابي تحولت إلى ثقافة سلطة هدفها ترسيخ سلطتها عبر تكريس ثقافتها في الشارع لا تطوير ثقافة الشارع عبر تمرير ثقافتها إلى نموذجه.
الآن، هل يمكنني أن أحدد السؤال- داخل تساؤل الصديق نوري الجراح- في التالي: هل ثمة مسارات تبادلية يمكن الحديث عنها بين «ثقافة الشارع» و«ثقافة السلطة»؟
لا شك في أن أهم ملمح من ملامح ثقافة السلطة- وفقًا للمفهوم الذي اجتهدت في صياغته- هو أنها ثقافة ذات اتجاه واحد، يحكمها يقين مغلق، ومرونته الوحيدة هي التابعة لتغير تصوره لمصالحه، أو نزوله على ضغط أشد من قدرته على التحمل بشكل يهدد بقاءه من الأساس، وهنا يتحور أو يكمن، وهو ملمح سجلته وقائع التاريخ في العديد من الحركات الأصولية الدينية أو الفكرية، وفي ممارسات الحكام وحكوماتهم. ولكنه تجلى كثيرًا في السنوات الخمس الأخيرة التي شهدت حراكًا غير مسبوق للشارع المصري أوضحَ كتلته كما لم تتضح من قبل – على الأقل في العصر الحديث- وجعلها جزءًا معتبرًا في معادلة ظل طويلًا خارجها بمعنى أو بآخر.
نشرتُ سنة 2006 مبحثًا بعنوان «تحولات الشخصية المصرية- صدمة الخروج من زيف الصورة الذهنية» في مجلة «أدب ونقد» القاهرية، رصدت فيه أنماط الشخصية المصرية الناتجة عن تعرضها لصدمة انكشاف وهم الصورة الذهنية التي عاشت عليها عقودًا طويلة، (عندما تنتقل هذه الشخصية من بيئتها الآمنة؛ مصر- بيئة الند بين أكفاء- التي عاشت فيها معتقدة في تميزها الفارق عن الآخرين لمجرد أنها مصرية) إلى أي بيئة أخرى فيتبين لها- أي الشخصية المصرية حاملة التصور الوهمي-أن ثمة آخرين كثر خارج مصر لهم قدرات تفوق- أو تقل أو تساوي- ما لديها من قدرات.
من هذا المبحث أقتبس هنا فقرة اختتمته بها (أدب ونقد، عدد مايو 2006): «... إنني حريص على أن أقول إن ما أثرته من نقاش حول الشخصية المصرية وتحولاتها عند وقوع صدمة الاحتكاك مع الآخر، يتسع ليشمل المجتمع المصري كله؛ نظراً لانهيار السدود المنيعة التي كانت تفرضها مصر حول أنموذجها المغلق الذي تُردد في داخله بحرية مطلقة أفكارها حول العبقرية والريادة والتفرد والتميز، فلم يعد الخطاب المعد داخليًا هو الخطاب الوحيد المتاح أمام المصري بعد الانفتاح المذهل الذي أحدثته ثورة التكنولوجيا والفضائيات وأقنية الاتصال، ولم تعد الصدمة الناتجة عن الاحتكاك والمقارنة -وبالتالي اكتشاف زيف الأوهام الذاتية وخداع الصورة الذهنية- مقصورة على أولئك الذين ينتقلون إلى الآخر في محيطه، بل أصبحت صدمة عابرة بعد أن صار الفضاء مكشوفًا على آخرين كثيرين يمتلكون خطابات مختلفة متباينة ومتفاوتة في القوة والضعف.
وفي اعتقادي أن الأزمة الحقيقية تكمن في المرحلة الحالية التي ينبغي الانتباه إليها وهي مرحلة تَلَقي الصدمة التي بدأ المجتمع المصري يتعرض لها بالفعل، من دون أن تكون هناك محاولات لتوقع وقياس ردود الأفعال على تلك الصدمة، وبالتالي غياب سيناريوهات متماسكة للتعامل معها، والتجهيز للتحولات المذهلة التي من شأن هذا الانفتاح الصادم أن يُحدثها في طبيعة وتركيبة الشخصية المصرية واضعين في الاعتبار ما عاشت عليه تلك الشخصية طوال عقود من أوهام التفرد والسبق والريادة.
لذلك فإن الحديث عن شخصيات كالمحتال، والكامن والمنسحب وأطيافها، وكذلك شخصية الناجي، وغيرها من شخصيات تناولتُها بالبحث على صعيد انتقال المصري للعيش في محيط الآخرين، ينطبق أيضًا على المصريين داخل محيطهم الخاص الذي لم يصبح خاصًا بمعنى (منعزل ومغلق) كما كان من قبل.
بمعنى آخر لم يعد (تحت السيطرة) كما كان قبل ثورة الفضائيات المذهلة. وهو أمر يمكن أن نعزو إليه ببساطة العديد من أشكال التحول والظواهر الجديدة الوافدة على المجتمع المصري، والتغير الحادث في أنماط السلوك لدى الجميع تقريبًا، وتحديدًا لدى الفئات الأكثر استعدادًا للتغير واكتساب قيم وعادات جديدة كالشباب والمراهقين والبسطاء من عامة الشعب«. انتهى الاقتباس.
كانت هذه الفقرة قبل خمس سنوات تقريبًا من إندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م، التي لا أشك للحظة واحدة أنها كانت التجلي الأهم لهذه المفارقة بين «ثقافة الشارع» – خاصة الأجيال الجديدة- بعد تغير روافد ثقافتهم وتطور وعيهم، وبين «ثقافة السلطة» بتصوراتها المحنطة عن الشعب.
بعد هذه اللحظة، أستطيع القول -بعمومية تحتاج إلى الكثير من البحث والمراجعة- بأن هذا الحراك الثوري العريض – اختلفنا أو اتفقنا في منحه اسمًا أو في نوايا فتيلته الأولى!- هو أعلى تجليات «النزاع» الذي أردنا وصفه بين الثقافتين الذين أشرنا إليهما: ثقافة الشارع من جهة وثقافة السلطة من الجهة الأخرى.
هذا الحراك الثوري- مهما اختلفنا حول نجاحه من فشله وفقًا لتصور كل منا عن النجاح والفشل- قد حقق عدة إنجازات، أصبحت واقعًا بمعنى أنها أضيفت إلى ثقافة الشارع بالفعل.
أول هذه المنجزات: هذا الانكشاف الواسع والجلي لوجود أشكال أخرى من علاقة الحاكم بالمحكوم غير تلك التي تم التكريس لها منذ قيام ثورة 1952م.
ثانيًا، ذلك الاختبار العملي التطبيقي المذهل الذي أعاد تعبئة مصطلحات كادت تصبح – بالنسبة للغالبية العظمى من المصريين- عبارات تراثية ومتحفية كتبها بشر عاشوا في أزمنة غير أزمنتنا.
لقد اختبروها بأعينهم في تجربة حية دفعوا ثمنًا لها من دماء أبنائهم وأشقائهم وأحبابهم وجيرانهم (الكلام هنا ينسحب على كل أطياف الشعب بلا استثناء، الممثلين لثقافة الشارع، والممثلين لثقافة السلطة: «حكام، أحزاب، جماعات دينية، أو فكرية يقينية... إلخ»)؛ فالكل اشترك – سلبًا أو إيجابًا- في تجربة عملية ضخمة أعادت تعبئة تلك المصطلحات بمعانيها، ودفعت الجميع للتفكير في مصطلحات تجسدت حية أمامهم كالشعب، والحرية، والإرادة، والكرامة، والاتحاد قوة والتفرق ضعف... وإعادة ترتيب منظوماتهم وفقًا لهذه المعاني الجديدة،هذا مكسب ثقافي بامتياز لا يمكن محوه، وهو عنصر اقتحم بلا هوادة منظومة ثقافة السلطة وأجبرها على التخلي عن أحد أبرز ملامحها «الاتجاه الواحد»وحَفَرَ مسارات تبادلية ينبغي تسليط الضوء عليها والحديث عنها ومحاولة التكريس لها بين «ثقافة الشارع» و«ثقافة السلطة»، للانتقال بالنزاع بينهما إلى مساحة أكثر تطورًا فهما غريمان– في ظني- سيظلان في نزاع دائم إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.