x

محمد السيد صالح أسطورة القصر والصحراء: مولود مع الريحانى والعقاد وعبيد.. و«الرياح التوفيقى» (الحلقة الثانية) محمد السيد صالح الإثنين 06-06-2016 21:11


استقرت الأمور فى القاهرة للاحتلال البريطانى، بعد شهور معدودة من هزيمة عرابى فى صيف 1882، وعمل الخديو توفيق ورجاله على تشريد كل رجال الجيش المصرى وضباطه الذين قاوموا الإنجليز. أما زعيم الثورة أحمد عرابى ورفاقه فكان مصيرهم النفى إلى خارج مصر بعد أن تم تخفيف الأحكام الصادرة ضدهم بالإعدام.

وكان عام 1889 عاماً محورياً فى حياة الخديو توفيق، حيث يسجل هذا العام فى ذاكرة التاريخ تدشين أكثر من مشروع تنموى فى مسيرته، غير أن أهمها على الإطلاق هو حفر الترعة التوفيقية، أو الرياح التوفيقى، الذى كان قد تم تصميمه أيام جده محمد على باشا، لكن لم يتم التنفيذ إلا فى عهد توفيق، وهو يبدأ عند القناطر الخيرية وينقل المياه إلى شرق الدلتا وصولاً للمنصورة ثم دمياط.

فى 1889 أيضاً، ولد أحمد حسنين باشا، وهو نجل الشيخ محمد أحمد حسنين، أحد كبار علماء الأزهر، وهو حفيد الأميرالاى «الفريق» البحرى أحمد حسنين، قائد الأسطول المصرى أيام الخديو توفيق، والذى رفض تسليم الأسطول للقوات البريطانية فى مالطا.

وتنقل العائلة أن جدهم ماطل الإنجليز لفترة طويلة فذاع صيته ليصبح من أشهر رجال البحرية المصرية، فبعد أن جاب بالأسطول البحر المتوسط واضطر للرسو قال للبريطانيين قوله الشهير: «مفيش مالطا».

ويكتب محمود القيسونى فى مقالاته عن أحمد حسنين باشا أن جده تم تعيينه ناظراً للحربية والبحرية بعد هذه الواقعة.

اللافت أن عام 1889 لم يكن عاماً محورياً فقط فى حياة الخديو و«الرياح» الشهير واستقرار الحكم تحت الاحتلال فقط، بل إنه العام الذى جمع مولد عدد من المشاهير والعظماء إلى جوار حسنين باشا، ففيه ولد أيضاً نجيب الريحانى فى حى باب الشعرية بالقاهرة، وولد فيه المؤرخ والسياسى الأشهر عبدالرحمن الرافعى، وكذلك الأديب والسياسى والمفكر عباس العقاد، والسياسى العملاق مكرم عبيد.

أما عالمياً، فإن أشهر مواليد هذا العام على الإطلاق، الذى غيَّر تاريخ البشرية إلى الأبد، فهو الزعيم النازى أدولف هتلر.

تقول جيدة هانم، ابنة أحمد حسنين باشا، إن جذور عائلتهم تعود إلى الجزيرة العربية، وإن جدهم الأكبر هاجر منذ عدة قرون إلى مصر فى «بولاق»، وإن جزءاً من العائلة استقر بالصعيد بعد ذلك، خاصة فى المنيا.

درس أحمد حسنين بمدرسة الخديوية ودخل بعدها مدرسة الحقوق، وسافر إلى بريطانيا والتحق بكلية بليول فى جامعة أكسفورد.

وهذه الكلية درس فيها كبار الساسة الإنجليز وعدد من مشاهير المصريين. كما درس فيها عدد من المشاهير من خارج بريطانيا. وللعلم فإن خريجى أكسفورد كانوا قوة مؤثرة فى المجتمع القاهرى على قلة عددهم.. وزاد هذا النفوذ مع تقارب هذه النخبة من الاحتلال. وقد شكل الخريجون ما يشبه الرابطة وكانوا دائمى التنسيق فيما بينهم، وسجلت الصحافة فى هذا التوقيت لقاءاتهم، ورصدت فى هذا السياق احتفاءً صحفياً بخريجى أكسفورد، خاصة تكريمهم لأحمد حسنين بعد تعيينه رئيساً للديوان.

وفى 1914 عاد إلى مصر، حيث عُيِّن سكرتيراً خاصاً للجنرال مكسويل، الذى كان قائداً عاماً للقوات البريطانية فى مصر خلال الحرب العالمية الأولى. وتؤكد مجلة الشهداء فى عددها الصادر فى الثانى من أغسطس عام 1940 أن أحمد حسنين كان له سعى مشكور فى إيجاد حسن التفاهم بين المصريين والإنجليز، وأنه بذل جهداً مهماً فى تخفيف وطأة الأحكام العرفية.

وبمراجعة أرشيفات الصحف الصادرة فى هذا التاريخ- أغسطس 1940، وهو تاريخ مهم فى مسيرة أحمد حسنين، حيث تم تعيينه رئيساً للديوان الملكى- نعثر على مادة صحفية تفصيلية بالمعلومات عن الرجل وتاريخه، وأهم ما فيها علاقته الجيدة بالإنجليز وبالقصر الملكى معاً.

غير أن مجلة الشهداء، التى أشرت إليها سابقاً، تشرح ظروف ترقية أحمد حسنين بعد ذلك، وتقول فى التقرير نفسه إنه بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى كان المصريون قد بدأوا يحلون محل الإنجليز فى وظائف الحكومة، وفى هذه الظروف عُيِّن حسنين «بك» مفتشاً فى وزارة الداخلية.. وهنا اتجهت نفسه- كما تكتب المجلة- إلى التحلل من قيود الوظيفة، وأخذ يعمل على تحقيق رغبة طالما جاشت فى صدره، وهى القيام برحلات فى الصحراء واستكشاف ما لايزال مجهولاً من أسرارها، فقام بعدة رحلات كانت آخرها تلك التى شملها المغفور له الملك فؤاد برعايته، وكشف فيها حسنين باشا عن واحتى «أركنو» و«العوينات». وتعلق المجلة فى هذا التقرير: «إنه كان يرجو، عندما تم له هذا التوفيق، أن تظل الواحتان ملكاً لمصر، ولكن حدث ما هو معروف، فإنه حينما جرى تعيين الحدود المصرية الإيطالية انتهى ذلك بالنزول لإيطاليا عند العوينات».

أما «أركنو» فقد بقيت ضمن حدود السودان. وهو تقرير يحتاج لكثير من الشرح والتعليق، حيث إن المقصود بحدود إيطاليا هنا هو الحدود المصرية مع ليبيا، حيث إن إيطاليا فى هذا الوقت كانت تحتل ليبيا، أما السودان فكانت جزءاً من المملكة المصرية تحت عرش ملك مصر والسودان، وفى هذا التاريخ كان الملك فؤاد، ومن بعده الملك فاروق، وحدث استقلال السودان بعد قيام ثورة يوليو بعامين، وتم ترسيم خط الحدود الحالى عند خط العرض 22.

ولا يمكن تقديم تاريخ أحمد حسنين باشا، أو غيره من القامات المصرية، بانفصال عن عصره، علماً بأن بدايات القرن العشرين كانت زماناً ملتبساً، بل هو الأكثر تعقيداً فى تاريخنا الحديث. كانت مصر قد دخلت رغماً عنها فى خضم الحرب العالمية الأولى إلى جوار بريطانيا، باعتبارها مستعمرة بريطانية. ومن سخرية الأقدار أن المصريين حاربوا ضد الدولة العثمانية التى كانت الأسرة الحاكمة تنتمى إليها.

وتقول كتب التاريخ «الرسمى» فى هذه الفترة إن مصر قدمت بطولات عظيمة وتضحيات كبيرة أسهمت فى الانتصار للقيم والمبادئ السامية، حيث شارك الجيش المصرى مع الحلفاء ابتداءً من 1914 فى الحروب فى 3 قارات: آسيا وأفريقيا وأوروبا، وكان ترتيب الجيش المصرى الثامن من حيث عدد القوات المشاركة. وتتضارب أعداد الضحايا المصريين «الشهداء» فى هذه الحرب ما بين 100 ألف ونصف مليون.

واستطاع الجيش المصرى صد هجوم العثمانيين من الشرق، وحارب فى الشام والعراق والجزيرة العربية فى آسيا، كما صد هجوم السنوسى من الغرب، وهجوم سلطنة دارفور من الجنوب.

هذا الواقع فرض نفسه على قصر الحكم، حيث خلعت بريطانيا الخديو عباس حلمى الثانى، عدوها اللدود، الذى استقر به الحال فى الأستانة.. ووقع اختيار لندن على الأمير حسين كامل لتعيينه على عرش مصر بعد عزل الخديو، وأطلقت عليه «سلطان مصر».. اختارته لتجميل الصورة المزيفة لحاكم مصر، فلم يبد فيه الشعب أو الوزراء رأياً.. وكانت لدى النخبة المثقفة- والتيار الليبرالى الوليد- مخاوف من تكريس الاحتلال البريطانى، حيث إن الخديو المخلوع «عباس حلمى» كان قريباً من الحركة الوطنية، خاصة مصطفى كامل، ومحمد فريد، إلا أن حسين كامل وحاشيته أشاعوا أنه قَبِلَ العرش لخوفه من أن تجىء إنجلترا بحاكم أجنبى إلى مصر، لكن لم يستمر فى الحكم طويلاً.. وتوفى بعد رحلة علاج فى أوروبا.

وفى أكتوبر 1917 تولى الأمير فؤاد السلطنة بعد وفاة السلطان حسين، الذى تغيرت معه مصر من «سلطنة» إلى «مملكة».

كان فؤاد، الذى سترتبط سيرته، خاصة حريمه، بأحمد حسنين باشا، اختياراً بريطانياً خالصاً. وكان الأمير فؤاد بالعاصمة البريطانية حين مرض السلطان، واستحسنه الإنجليز، وبدأت الحكومة فى تسوية ديونه، وبدأت تفتش فى حياته العامة والخاصة تمهيداً لتمكينه من حكم مصر. اقترب أحمد حسنين من فؤاد منذ يومه الأول فى قصر عابدين.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية