بالرغم من ضعف الأحزاب وقوة الدولة بأجهزتها (الجيش، والشرطة، وأجهزة الأمن القومى)، فقد يسيطر حزب واحد على هذه الأجهزة، حفاظا على أمن الدولة. ويصل الأمر لأن تصبح الدولة فرعا من أجهزة الأمن أو من الحزب الحاكم، فيضيع الكل (الدولة) لحساب الجزء وهو الحزب الحاكم أو أجهزة الأمن التى تحكم الدولة من ورائه.
وقد حدث أخيرا أن عُزل رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات لأنه «إخوانى» وعُيّن آخر مكانه ليس إخوانيا. وهو بالضرورة من أنصار النظام الحاكم. وإذا كان الأول قادرا على الكشف عن ميزانية الدولة ومصروفاتها، فإن الثانى لانتمائه لجهاز الحكم غير قادر على ذلك. والسؤال: هل الوظائف العليا- مثل وظيفة رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات- تخضع للانتماء الحزبى أم للكفاءة الخالصة؟
وماذا يضير الجهاز أن يكون رئيسه إخوانيا أو غير إخوانى، ما دامت الأرقام صحيحة والوثائق دالة؟
ولا فرق بين أخونة الدولة، وعسكرة الدولة، بناء على إحصاءات المحافظين والمناصب العليا. وفى كلتا الحالتين تضيع الدولة لصالح الحزب- الحزب الدينى أو الحزب العسكرى، حتى إن لم يكن هناك حزب معلن، لأنه لا يجوز للعسكريين أن يكوّنوا حزبا، وفى صالح الثورة أو فى صالح الثورة المضادة. وقد تجمع كل أنصار الثورة المضادة من الفلول والإخوان ورجال الأعمال القدامى والجدد لابتلاع الدولة بأجهزتها الاقتصادية والسياسية.
وما الفرق بين أخونة الدولة التى تسببت فى ثورة ثانية، وعسكرة الدولة التى بدأ الناس يضجون منها؟
ما الفرق بين أن تقف الدولة على ساق واحدة، ثم تهتز فتقف على الساق الأخرى؟ وفى كلتا الحالتين حركة عرجاء. ولماذا لا تقف الدولة على الساقين معا حتى لا تهتز، وأن ترى العالم بعينين اثنتين، بدلا من عين واحدة، فتصبح رؤية عوراء.
وهذا بالضبط ما كان يحدث قبل ثورة 1952 فى العصر الليبرالى، عندما كان يحكم الوفد، فيعين وفديين فى كل الوظائف العليا. وعندما كان يحكم السعديون فإنهم يعينون سعديين مكانهم. وعندما كان يحكم أنصار العرش فإنهم كانوا يعينون ملكيين مثلهم. ولم تغير ثورة 1952 التى قامت بعسكرة الوظائف العليا، ولا ثورة 2011 فى إحدى موجاتها بتعيين إخوان وفى موجة أخرى تعيين عسكريين، وفى موجة ثالثة رجال أعمال يرعون مصالحهم، ويتغيرون إلى غيرهم قبل القبض عليهم باعتبارهم فاسدين.
والنتيجة رفض الدولة المهيمنة، إما سريا بتكوين جبهات معارضة من أجل التخلص من دولة الاستبداد. وإما ممارسة العنف معها إذا منعت حتى من التعبير عن نفسها. وتدافع الدولة عن نفسها فتصبح دولة العنف عنفا بعنف، ودما بدم، لا فرق بين دم الطالب ودم الشرطى. والضحية هم المدنيون الأبرياء الذين لا دخل لهم فى هذا الصراع بين الدولة وخصومها، بين القانون والخارجين عليه. وتنتهى أسطورة الدولة الحاضنة لأبنائها بصرف النظر عن اتجاهاتهم الفكرية والسياسية. فهذا حقهم الطبيعى. وتبدأ مقولتا الإرهاب والتكفير فى الظهور. الدولة تتهم جماعات المعارضة التى تمارس العنف ضدها بالإرهاب. وفى المقابل تكفِّر جماعات المعارضة الدولة، لأنها لا تحكم بشرع الله. وتنتهى قصة الائتلاف الوطنى أو المصالحة الوطنية.
وينتقل الرأى الواحد من الدولة إلى التعليم والإعلام. وتعاد صياغة كتب التعليم لطلبة المدارس، طبقا لأهواء الحكام. والإعلام كله يكون موجها طبقا لما يراه الحكام. والتعليم والإعلام هما ما يشكلان بؤرة الثقافة الوطنية. لذلك تصعب الثورة لأن الثقافة الإعلامية والتقليدية لم تتغير بعد. وفى الثورة الفرنسية سبق المفكرون الأحرار الثوار قبل استيلاء امرأة على سجن الباستيل. ونحن نثور دائما إما بانقلابات عسكرية كما حدث فى 1952 أو بثورات شعبية كما حدث فى 2011 وفكرها الثورى غير ممهد. فساد الإسلاميون عليها أولا ثم العسكريون ثانيا. وكلاهما حزب به صفات الحزب التقليدى.. الأحادية، ورفض الآخر.
وبالرغم من استبداد الدولة وعملها بمفردها، فهى مهددة من الداخل بالتقسيم الطائفى والعرقى، كما حدث فى العراق وسوريا وليبيا واليمن. فالتوحيد العقائدى لم ينعكس فى التوحيد السياسى والاجتماعى. والدولة المصرية متواصلة فى التاريخ منذ تأسيسها الأول فى عهد الملك مينا وتوحيد الشمال والجنوب حتى محمد على فى العصر الحاضر.
توالت عليها نظم سياسية عديدة وانقطعت منذ ملوك الأسر الأولى حتى أيام البطالمة والحكم اليونانى والرومانى ثم الحكم الإسلامى بأسماء مختلفة، الفاطميون والإخشيديون والمماليك والأتراك العثمانيون. وأخيرا محمد على، وعبدالناصر الذى أعاد إحياء دور الدولة المصرية فى الداخل والخارج.
وإذا كان الفلاسفة مثل لينين قد كتبوا عن (الدولة والثورة)، وكان ماركوز قد كتب (العقل والثورة) فالمطلوب منا أن نكتب تجربتنا الثورية فى (الدولة والحزب).
والثوار أثناء الثورة ليس فى بالهم لا الحزب ولا الدولة، بل فى ذهنهم المعامل الجديد وهو الثورة. وكما ذكرنا كتب الفلاسفة عن (العقل والثورة) و(الدولة والثورة) و(الفلسفة والثورة)، ولكن لم يكتب أحد حتى الآن (الشعب والثورة). فالذى قام بثورة 2011 هو الشعب، وليس حزبا مدنيا أو عسكريا. وهو نوع جديد من العلاقة بين الثورة المعامل الجديد وأى من المؤسسات القديمة، الحزب أو الطبقة أو الدولة. ويتجدد الفكر الثورى بالمقولات الثورية الجديدة: (الإحباط والثورة)، (الأمل والثورة)، (الثورة والثورة المضادة)، وكلها ظواهر من الثورات فى الربيع العربى.
إن تاريخ الثورات لا يعنى دراسة ماضيها، فالماضى هو التاريخ، بل يعنى مواقع الثورة فى قلوب الناس فى الحاضر. فالحاضر ما هو إلا تاريخ متراكم. والأهم هو مدى استطاعة هذا التاريخ المتراكم فى الحاضر أن يحدد ملامح المستقبل.
ليست القضية تجديد الخطاب الدينى ولا حتى تجديد الفكر الدينى، بل القضية هى تجديد الفكر السياسى عن طريق الدخول فى أعماق الوعى العربى لتحليل مكنوناته لربما يُحدث قراءة جديدة للتاريخ أى للماضى ووعيا جديدا للحاضر لم يعبر عن نفسه بعد، وتطلعا نحو المستقبل الذى يتوق الجميع إليه.