عندما قامت ثورة يوليو 1952، كان أول ما اهتمت به هو «التخطيط الاقتصادى» ولذلك من أوائل هذا الفكر، إنشاء المجلس القومى للإنتاج.. واسمه بالكامل: المجلس الداعم لتنمية الإنتاج القومى، وذلك فى شهر أكتوبر 1952 لكى يتولى إعداد دراسة الموسوعات الكبرى: زراعية وصناعية وتجارية.. والمساهمة فى تنفيذها.. ثم كان قرار إنشاء وزارة الصناعة فى يوليو 1956 ثم فى يناير 1957 صدر قرار جمهورى بإنشاء مجلس التخطيط الأعلى برئاسة رئيس الجمهورية ولجنة التخطيط القومى، ويرأسها وزير التخطيط ثم تم دمج مجلس تنمية الإنتاج القومى ومجلس الخدمات العامة فى لجنة التخطيط القومى.. وفى إطار ذلك كله تمت دعوة البروفيسور شاخت والذى كان العقل الاقتصادى وراء أدولف هتلر للاستماع إلى رأيه.. فى مشاكلنا.. وفى حلولها.
ولكن ما هى مناسبة هذا الكلام الآن؟! المناسبة هى التخبط فى القرار الاقتصادى الذى يسود حياتنا الآن، وبات الأمر وكأن كل وزير يعمل منفرداً، وهات يا تصريحات وردية، وإذا ذهب الوزير ماتت كل تصريحاته!! لنعود.. ونبدأ من جديد.. وهنا أتذكر أن مصر عرفت بعد ذلك فكرة «المجموعة الاقتصادية» التى يرأسها نائب لرئيس الحكومة.. حتى يكون القرار جماعياً.. وبعيداً عن المظهرية.. وبالطبع لم يعمل هذا المنصب منفرداً عن مجلس التخطيط القومى، ولا أحد ينكر أن مصر عرفت الخطة الخمسية فى ظل هذا الفكر الاقتصادى المستنير ونجحنا فى تحقيق الكثير.
هنا يثور السؤال: إذا كان ذلك حدث وفى الأسابيع الأولى لثورة يوليو 1952.. لماذا لا نكرر نفس المنهج، ليس لأننا عبيد الماضى.. ولكن بسبب المكاسب التى حققتها مصر، إلى أن كانت هزيمة يونيو 67 فوقفت كل إيجابيات هذا السلوك الاقتصادى المتميز.
ومصر الآن - وهى فى أعقاب ثورتين لا ثورة واحدة - أحوج ما تكون لهذا الفكر الاقتصادى الشامل الذى يقوم على العلم وحده وليس على الفهلوة.. أو التصريحات الإعلامية البراقة.. والغريب بل المؤلم أننا لم نر لا فى رئاسة الجمهورية.. ولا فى مجلس الوزراء - ما يسمى المجموعة الاقتصادية، كما يجب، تتلقى الأفكار، وتدرس، وتخطط وتأخذ القرار، الذى تلتزم الدولة كلها بتنفيذه، سواء ظل رئيس الجمهورية فى موقعه.. أو تغيرت الحكومة نفسها.. أى يصبح هذا الفكر هو أساس تحركنا، فى كل المجالات.
ولن تبدأ هذه المجموعة الاقتصادية «العليا» فى رئاسة الجمهورية، أو المجموعة الاقتصادية بمجلس الوزراء عملها من فراغ، لأن هناك دراسات عظمى مركونة للأسف فى معهد التخطيط القومى.. وهناك مئات الدراسات أعدتها المجالس القومية المتخصصة.. وكانت تتبع مباشرة رئاسة الجمهورية طوال عهد الرئيس مبارك.. بل يجب أن تكون هذه الدراسات هى البداية الصحيحة لما يحلم الشعب بتنفيذه، فى كل المجالات.. وحتى لا تصبح قراراتنا - أو تحركاتنا - الاقتصادية مجرد فقاعات فى الهواء، سرعان ما تنتهى.. ويضيع معها كل إنتاج العقل المصرى من إبداعات.
والمطلوب الآن: مجلس أعلى للتخطيط يتبع رئاسة الجمهورية مباشرة ليستمد سلطته من مؤسسة الرئاسة نفسها.. ومجلس قومى للتخطيط يتبع مباشرة «نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية» ولن يقول أحد إننا بذلك نعود إلى الوراء، وأن هذا كان من أكثر من 60 عاماً، ولكن ليس أمامنا غير ذلك، حتى يقتنع الناس بما تفعله أو تقدمه الدولة ولا يتعجل الشعب «الحصول».. بل يندفع ليساهم مع الدولة فى التنفيذ، وفى الانتظار.
■ وليس سراً أن هذا الذى صنعته ثورة يوليو 1952 هو الذى صنع المجد الصناعى - والاجتماعى - لهذه الثورة.. التى بدأت بهذا الفكر العلمى بداية من إنشاء المؤسسة الاقتصادية.. ومجلس التخطيط القومى، ووضع مصر على أعتاب طفرة اقتصادية عظمى حتى وإن أوقفت بسبب هزيمتنا العسكرية فى يونيو 1967.
■ علينا إذن أن نقنع الناس بمزايا هذا التخطيط العلمى لكى يساهموا فى البناء.. ولا يتعجلوا حصد المكاسب، إن كانت هناك مكاسب قومية ظاهرة للناس.. وإذا لم يقتنع الناس بذلك.. فلن تحصلوا منهم على أى مشاركة حقيقية تبدأ بالتقشف.. وتنتهى بالحصاد.
فهل نرى - بالفعل - مثل هذا السلوك الاقتصادى الشامل.. أم نظل نستمع للتصريحات الوردية، لكل وزير على حدة.. وحتى لا نترك الرئيس السيسى يعمل بمفرده.. أو بصراحة: حتى لا يفقد الأمل.